حكايات من الكتب

ذكر شرقي منقرض


Listen Later

في عالمنا الشرقي، عاش كائن ضخم، أشبه بديناصور بشري مثقل بالأمراض، نسميه "الذكر الشرقي المنقرض". هذا الكائن لم يكن مجرد شخص مريض، بل كان يحمل متلازمة مرضية كاملة تفتك بنفسه وروحه ومن حوله. كانت أعراضه تتمثل في النرجسية والأنانية والغرور، وتتحول روحه إلى سادية وسيكوباتية وتحجر في المشاعر. كان يتسم بالتسلط والفوقية والوصاية، والكبر والغطرسة، والظلم والتجبر. لم يقتصر تأثير مرضه على دائرته الصغيرة، بل امتد ليؤثر على عائلات وجماعات ومجتمعات بأكملها.
هذا المرض لم يكن حاداً يظهر فجأة ويمكن علاجه بسرعة، بل كان مزمناً وعمره عقود طويلة، ومتوغلاً كالسرطان الخبيث في عقول الكثيرين، رجالاً ونساءً على السواء، ومستشرياً في أعماق الشخصية العربية.
كانت قصة هذا الكائن تبدأ مبكراً. أحياناً، يجد الطفل الذكر نفسه يتعلق بأمه بشكل مبالغ فيه، يغار عليها ويعتبرها ملكية خاصة. المشكلة تحدث عندما تشجعه الأم نفسها على لعب دور الزوج أو رجل البيت، خاصة في ظل أب قد يكون منسحباً أو مهمشاً. فيظل هذا الطفل، حتى وهو يكبر، محتفظاً بصورتين متناقضتين للمرأة: الأم والزوجة، ويُسجن في دور ليس دوره.
المجتمع أيضاً لعب دوراً كبيراً في صياغة هذا الكائن. كانت الرسائل التي يتلقاها منذ صغره تربطه برجولته المزيفة: "أنت راجل.. أنت دكرر". كان يُعلم أن شرفه في جسد المرأة من حوله، لا في نفسه. كان يُرسخ في ذهنه أن الأنثى كائن جنسي بالدرجة الأولى، وأن دورها الأساسي هو إمتاعه وخدمته. وأن عليها الطاعة المطلقة، وأن من حقه السيطرة والتحكم، وأحياناً الضرب. هذه الرسائل كانت تُغذى من خلال التربية، والأعراف الاجتماعية، وحتى الفهم المشوه للنصوص الدينية. المفارقة المؤلمة هي أن النساء أنفسهن كن شريكات في صناعة هذا الذكر الشرقي، بتفصيل وتعبئة وتغليف هذه الذكورية وتسليمها لكل بيت. هن من يعطين الذكر أكثر من حقه ويبخسن المرأة حقها.
نتيجة كل هذا، كانت الحياة مع هذا الكائن صعبة ومؤلمة. العلاقات الزوجية تتحول إلى مقابر نفسية. كان يرى نفسه الآمر الناهي، الذي يفكر ويقرر نيابة عن شريكته، ويعاملها كطفلة قاصرة. كان النقد والطلبات المستمرة سمة أساسية في تفاعلاته اليومية في البيت. كان يلوم الضحية، ويجد المبررات لسلوكه القاسي. خلف كل هذا التسلط والقسوة، كان هناك غالباً شعور عميق بالدونية وقلة القيمة، وطبقات من الخوف والرعب. الخوف من ألا يكون كافياً، الخوف من الرفض إذا ضعف، الخوف من فقدان السيطرة. هذا الخوف البدائي هو الذي دفعه لبناء جدار "الرجولة المزيفة".
لكن هل هناك أمل في التغيير؟ المصادر تقول نعم، هناك أمل، ولكن الرحلة صعبة وتحتاج جهداً طويلاً وشديداً. نقطة البداية نحو العلاج والتغيير هي إدراك ودفع الثمن الذي يدفعه الجميع. العلاج يتطلب رؤية علمية وعملية مفصلة ومبسطة. المفتاح الأول هو القبول، ليس الموافقة على الأفعال، بل تفهم الصعوبة والضعف وراء هذا الكائن، والتعاطف معه، لأنه جزء من نسيجنا والمدرسة التربوية التي نشأنا فيها جميعاً.
التغيير يجب أن يبدأ من الداخل، من كل فرد، رجلاً كان أو امرأة. المرأة تحتاج أن تصدق أنها إنسانة حرة تستحق التقدير والاحترام لذاتها، وأن أغلى ما تملك هو نفسها، وألا تسمح لأحد بتملكها أو المساومة عليها. الرجل يحتاج أن يسمع الصوت الآخر بداخله، الصوت الذي يخبره أن الرجولة غير الذكورة. أن الرجولة سلوك وموقف وفكر، بينما الذكورة بيولوجيا وجنس. يحتاج أن يقبل ضعفه وعجزه أحياناً. وأن يكتشف "أنوثته الحقيقية" بداخله المتمثلة في المودة واللين والطيبة. وأن يواجه الخوف الذي يسجنه، ويحرر نفسه ومن حوله.
التغيير الحقيقي سيبدأ عندما يتغير الأفراد، وينعكس هذا التغيير على دوائرهم القريبة، وهكذا ينتشر في المجتمع كله. الأمر يتطلب جراحات نفسية عاجلة في كل مكان، وتطبيقاً حاسماً للقوانين التي تحمي الجميع.
في النهاية، القصة ليست عن شيطنة الذكر الشرقي، بل عن فهم المتناقضات داخله ومحاولة إصلاحها. هي دعوة لإيقاظ الرجولة الحقيقية المدفونة تحت أنقاض الرجولة المزيفة. دعوة لدفن "الذكر الشرقي المنقرض" الذي كان بداخلنا، ومرحباً بالفطرة التي خرجت لتوها من تحت الغبار، ليعيش الإنسان رجولته الحقيقية ويستمتع بها، كما خلقه الله في أحسن تقويم.
...more
View all episodesView all episodes
Download on the App Store

حكايات من الكتبBy حكايات من الكتب