حكايات من الكتب

داروين مترددا


Listen Later

إنها قصة درامية وغنية ترويها قاصٌّ موهوب بأسلوب ممتع. رحلة فكرية: من هوس الخنافس إلى ثورة الأنواع تشارلز داروين، الشاب الذي غادر كامبريدج بعد دراسة اللاهوت دون تركيز، كان مولعاً بجمع الخنافس النادرة وصيد الطيور. في عام 1831، انطلق في رحلة حاسمة على متن سفينة المسح "بيجل" كعالم طبيعة، وعاد إلى إنجلترا في عام 1836. أثرت هذه الرحلة جذرياً على تفكيره، فقد تحول من خريج مفتقد للتركيز إلى طالب جاد في الجيولوجيا والتاريخ الطبيعي. على الرغم من أن الكاتب يتجاهل تفاصيل هذه الرحلة لسبب الاختصار، إلا أنها كانت حاسمة في تكوين أفكار داروين. عند عودته إلى لندن في عام 1837، سرعان ما غاص داروين في عمله العلمي. كانت اكتشافاته، خاصةً ما يتعلق بـطيور فنش غالاباغوس والطيور المحاكية التي جمعها، نقطة تحول. لاحظ عالم الطيور جون غولد أن الطيور المحاكية التي جمعها داروين من جزر مختلفة في غالاباغوس كانت أنواعاً متميزة، وليس مجرد اختلافات. هذه الملاحظات، بالإضافة إلى اكتشاف ريتشارد أوين لأحافير حيوانات منقرضة تشبه الأنواع الحية في أمريكا الجنوبية، ودراسة داروين نفسه لـ"ريّة" (نوع من النعام) جديدة في باتاغونيا، كلها قوّضت فكرة استقرار الأنواع. كتب داروين في دفتر ملاحظاته الخاص في يوليو 1837 أن "الحقائق التي رأيتها في غالاباغوس، وكذلك الأنواع المنقرضة المتعلقة بحفرياتي… هي أصل كل آرائي". بدأ داروين في ملء دفاتر ملاحظاته السرية، والتي أطلق عليها اسم "دفاتر تحول الأنواع"، التي حملت أفكاراً جريئة ومخالفة للسائد. كان هذا العمل يتم بسرية تامة، حيث كان يدرك أن أفكاره تتعارض مع الفكر الأنجليكاني التقليدي الذي كان سائداً في بريطانيا آنذاك. أدرك داروين أن التباين بين الأفراد (أي الاختلافات الوراثية) هو أساس التكيف، وأن الجغرافيا الحيوية تلعب دوراً مهماً في توزع الأنواع. شرارة الانتقاء الطبيعي وعبء السرية كانت اللحظة الحاسمة في تطور نظرية داروين عندما قرأ كتاب توماس مالتوس "مقال عن مبادئ السكان" في سبتمبر 1838. أدرك داروين من مالتوس أن أعداد الكائنات الحية تتزايد بمعدل هندسي، بينما لا تزيد مصادر الغذاء إلا بمعدل حسابي. هذا يؤدي حتماً إلى "صراع من أجل البقاء". رأى داروين بوضوح أن الكائنات الأكثر تكيفاً مع ظروفها ستكون هي الأقدر على البقاء والتكاثر، في حين أن الأضعف سيهلك. هذه الفكرة، التي أسماها لاحقاً "الانتخاب الطبيعي"، كانت لب نظريته الثورية. لقد خط داروين فكرته العظيمة في كلمات مختصرة ومكتوبة بعناية، لكنه لم يعلن عنها للعالم. عاش داروين حياة غريبة ومزدوجة كجاسوس في دهاليز المؤسسة العلمية، حيث احتفظ بأفكاره الثورية لنفسه. كان يعاني من مرض مزمن وغامض، تميز بانتفاخ البطن والصداع الشديد ونوبات القيء العنيفة، مما جعله يعتذر عن مهامه الاجتماعية. لم يُعرف سبب مرضه حتى اليوم. هذا المرض، إلى جانب التزاماته العائلية وانعزاله في منزله بداون، زاد من تردده في نشر أفكاره التي كانت ستُحدث جدلاً واسعاً. ثماني سنوات مع البرنقيل قضى داروين ثماني سنوات (1846-1854) في دراسة البرنقيل، وهي كائنات بحرية غريبة. كان هذا العمل، على الرغم من طوله وتخصصه الشديد، بمثابة تدريب مكثف له على التصنيف وفهم التباين داخل الأنواع. من خلال تشريح ودراسة هذه الكائنات الدقيقة، اكتشف داروين مستويات مذهلة من التباين في البنى التناسلية وغيرها من الخصائص، مما عزز قناعته بأن النوع ليس كياناً ثابتاً، بل يتغاير بشكل ملحوظ. هذا العمل العميق ساعده على صقل حججه حول الانتقاء الطبيعي. والاس يدق باب داروين في عام 1858، تلقى داروين صدمة. وصله خطاب من عالم الطبيعة الشاب ألفريد راسل والاس، الذي كان يعمل في أرخبيل الملايو. والاس، الذي كان أصغر من داروين بأربعة عشر عاماً، توصل بشكل مستقل إلى نفس فكرة التطور بالانتخاب الطبيعي. كانت مخطوطة والاس، التي تحمل عنوان "عن نزعة المتغيرات إلى الابتعاد عن النمط الأصيل"، تلخص نفس منطق داروين تماماً. شعر داروين باليأس لأن عمل حياته، الذي ظل سراً لسنوات، كان سيفقد أسبقيته. لكن صديقيه المقربين، الجيولوجي تشارلز لايل وعالم النبات جوزيف هوكر، أقنعاه بتقديم ملخص لعمله مع ورقة والاس في اجتماع الجمعية اللينيانية في يوليو 1858. ميلاد "أصل الأنواع" والجدل لم تُحدث الورقتان المشتركتان ضجة فورية. لكن والاس وداروين أصبحا "مؤلفين غائبين حاضرين" في الحدث الذي سيغير علم الأحياء. بتشجيع من لايل وهوكر، تسرع داروين في كتابة "خلاصة" لنظريته. هذا "الخلاصة"، التي أصبحت تُعرف لاحقاً باسم "أصل الأنواع بواسطة الانتقاء الطبيعي، أو الحفاظ على الأعراق المفضلة في الصراع من أجل الحياة"، نُشرت في نوفمبر 1859. بيعت النسخة الأولى بالكامل في يوم واحد. لقد أحدث هذا الكتاب ثورة في فهم الحياة على الأرض. حاجج داروين بأن جميع الكائنات الحية تطورت من أسلاف مشتركة من خلال عملية تدريجية عبر الزمن، وأن الانتخاب الطبيعي هو الآلية الرئيسية التي تقود هذا التغيير. قدم أدلة واسعة من الجغرافيا الحيوية، والسجل الأحفوري، وعلم الأجنة، وعلم التشكل (المورفولوجيا). لكن الكتاب لم يخلُ من الجدل. ففكرة الانتقاء الطبيعي، التي لا توجهها قوة عليا أو غائية، بدت للكثيرين "مادية" و"مهينة"، خاصةً عندما تُطبق على الإنسان. واجه داروين نقداً حاداً من علماء دين وعلمانيين على حد سواء. كانت زوجته إيما، المتدينة جداً، قلقة بشأن آراء زوجها التي تتعارض مع إيمانها. رغم أن داروين لم يزعم قط أنه ينحدر من القردة (كما يُفهم خطأً)، فإن تلميحاته حول أصل الإنسان كانت كافية لإثارة عاصفة. كما كان نقده للمفهوم القديم للخلق الخاص لكل نوع أمراً مزعجاً. إرث داروين: رحلة لا تنتهي في سنواته الأخيرة، استمر داروين في العمل، مؤلفاً كتباً أخرى عن النباتات والديدان. توفي داروين في أبريل 1882. أصبحت كتبه، خاصة "أصل الأنواع"، من أهم الكتب العلمية التي كُتبت على الإطلاق، وتُرجمت إلى العديد من اللغات. لم تكن عملية كتابة "أصل الأنواع" سهلة لداروين، الذي وصفه بأنه "كتابه الكريه". لكن هذا الكتاب، على الرغم من عيوبه في الأسلوب أحياناً، قدم حجة متماسكة ومقنعة غيّرت فهم البشر لمكانتهم في العالم الطبيعي. فكرة داروين عن التطور بالانتخاب الطبيعي، على الرغم من النقد والجدل الذي صاحبها وما زال، هي جوهر البيولوجيا الحديثة. إنها فكرة حقيقية ورائعة، تشرح كيف يمكن أن تنشأ أشكال لا حصر لها من الجمال والروعة من بداية بسيطة للغاية. لقد أتاح لنا داروين أن نرى العالم الحي كعالم متغير إلى ما لا نهاية، وفهم الكون المادي بأكمله كعالم من الاحتمالات.
...more
View all episodesView all episodes
Download on the App Store

حكايات من الكتبBy حكايات من الكتب