ذكرتم ان المريخ كان يصلح للحياة قبل مليار سنة او نحو مليار سنة، لكن هل كانت هناك حياة ام لا حسب الادلة التي جمعت من خلال جميع الرحلات التي ذهبت الى المريخ؟
(للقراءة او المشاهدة او الاستماع للجزء الأول يمكن مراجعة الرابط)
حتى الان لم يكن هناك بحوث كافية او ادلة كافية للإجابة عن هذا السؤال. قضية وجود الحياة هي قضية معقدة ايضا. عندما نتحدث عن الحياة على المريخ، فهل هي حياة بدائية جدا على مستوى الخلايا، ام هل وجدت مستحاثات بسيطة تدل عليها؟ هذا ما اقوله: لا توجد مستحاثات. تذكر انه على الارض، حتى تجد مستحاثات معينة، يجب ان تفحص الارض وتعرف اين تذهب، فهي ليست موجودة في كل مكان. بعدما وصلنا الى هذه المرحلة، لكن في الاسبوع الماضي، قبل ايام، كان هناك خبر انهم وجدوا اثار حياة على المريخ او ادلة اولية لآثار حياة. فهل هي اثار حياة ام ظاهرة طبيعية لا علاقة لها بالحياة؟ هذا يحتاج وقتا لدراسته.
هذا هو سبب تركيز وكالات الفضاء العالمية، الامريكية والاوروبية والصينية والهندية واليابانية. اقصده، لاحظ انني لا اذكر الشرق الأوسط، فنحن خارج هذه اللعبة. تركيزها على المريخ، فيجب دراسة المريخ اكثر وبشكل ادق حتى اذا وجدت عليه حياة، نقدم شيئا اخر للناس الذين يأتون اليه على الاقل.
عندما كان كلينتون رئيسا لأمريكا، تم اكتشاف صخرة او الاعلان عن اكتشاف اثار ما يشبه الدودة، الدودة الصغيرة في قلب صخرة مصدرها المريخ. المريخ بين فترة واخرى تصل صخور منه – نادرا لكنها تصلنا. كيف تصلنا؟ اذا سقط على المريخ نيزك، فتنطلق منه صخور الى الفضاء وجزء صغير منها جدا يصلنا، أي يصل الارض. فهناك عدة صخور لا نعرف مصدرها من المريخ، ففي واحدة من هذه الصخور وجدوا حياة مجهرية تشبه الدود. وفي ذلك الوقت كان الاقتراح ان هذه ظاهرة حياة. بعد الدراسات هناك خلاف على هذا الموضوع، على الاغلب ان هذه ليست كائنات حية وانما ظاهرة طبيعية لا علاقة لها بالحياة.
فحتى نتأكد من ان ما تفحصه او ما ترصده هو مصدر حياة سابقة، فالقصة طويلة، وليست سهلة، خاصة لأننا لا نتحدث عن كائنات كبيرة تحتوي على هيكل عظمي وما الى ذلك. نحن نتحدث عن بكتيريا، وكائنات وحيدة الخلية وما الى ذلك التي لا تحتوي على بناء مورفولوجي معين من حيث الشكل والمظهر، فلا يمكنك ان تقول ان هذه حياة وانتهى الامر. فالأمر اعقد مما نتصوره. لكن هناك بحوث وجهود حثيثة للبحث في وجود هذه الامور، لأنه مهم اذا عرفنا اصل الحياة على الارض من نشأة وما الى ذلك.
رابط شراء كتاب عوالم لا حصر لها من موقع نيل وفرات
دكتور، كنت ارغب في سؤال ربما غطيتموه تقريبا، وهو الحياة كظاهرة طبيعية. لكن ما معنى ذلك؟ وايضا اود الانتقال لأمر اخر قرأته ويجذب اهتمامي، وهو النظرة الفيزيائية المحضة للحياة. مثلا قضايا مثل التخلص من الانتروبيا عبر التكاثر، والاساس الفيزيائي للحياة. ولا ادري ان كان هذا يتصل مع مفهوم الحياة كظاهرة طبيعية او مع امر اخر ايضا ذكرتموه ربما في سياق مقارب، وهو مشكلة ضبط الثوابت الدقيقة (the fine-tuning problem). فهذه كلها قضايا اراها مثيرة للاهتمام، واكيد انتم اعلم بكيف يمكن تغطيتها وان كانت متصلة ام لا.
دعني أبدأ من النقطة الأولى لأتوسع في فكرة قلتُها: "الحياة ظاهرة طبيعية". أولاً، عندما نذهب إلى الطبيب سواء كنا مرضى أم لا، فإن الطبيب يتعامل مع الجسد في النهاية على أنه مادة كيميائية، أقصد تفاعلاتٍ كيميائية. فحياتنا مبنية على هذا الأساس. عندما نصاب بالصداع نتناول الأسبرين لأنه يحدث تفاعلٌ كيميائي يوقف الصداع. وإذا كان ضغطنا مرتفعاً نتناول مادة كيميائية تخفض ضغط الدم، وهكذا. هذا هو المبدأ الأساسي في الطب، فهو يتعامل مع الجسد كآلة، كشيء طبيعي، لا يتعامل معه على أنه روح فحسب، بل يتعامل معه كجهاز يعمل، وأحياناً يتعطل، وأحياناً يزداد الحمل عليه، وأحياناً تختل مواده. هذا بالطبع على المستوى الأولي.
بالإضافة إلى ذلك، إذا نظرنا إلى تاريخ الحياة، نجد أن الحياة كما ذكرت ظهرت مبكراً جداً. فعمر الأرض يقدر بـ 4.5 مليار سنة، وفي اللحظات الأولى من أول 500 مليون سنة كانت الأرض ساخنة، وشهدت أحداثاً دراماتيكية مذهلة. على سبيل المثال، في بدايتها وخلال أول 10 إلى 20 مليون سنة، اصطدم بها جسمٌ كبير – أقصد أن هذا الاصطدام أدى عملياً إلى تشطير الأرض، فانفصل عنها جزء كبير تحول إلى القمر. فالقمر في تاريخه جزء من الأرض، ونعلم هذا من تركيبه الكيميائي وكذلك من حجمه. فالقمر كبير بشكل ملحوظ، أقصد كبير نسبياً مقارنة بحجم الأرض. فهناك أقمار أخرى تكون أصغر حجماً مقارنة بكواكبها، لكن المشتري كبير جداً – أكبر من الأرض بألف مرة – بينما يعتبر القمر بالنسبة للأرض جسماً كبيراً بشكل غير عادي. والسبب في وجوده هو تلك العملية الاصطدامية التي يبدو أنها حدثت في بداية تكوين الأرض. لذا لم يكن من الممكن وجود حياة في تلك الفترة المبكرة.
من الخصائص الأخرى للأرض المبكرة أنها لم تكن تحتوي على ماء. فالماء لم ينشأ مع الأرض، ونحن نعرف لماذا؟ لأنه أثناء عملية النشوء كانت الحرارة مرتفعة جداً ونحن قريبون من الشمس، فكان الماء يتبخر قبل تكون الأرض. فالماء الموجود – أقصد في المنطقة القريبة من الشمس – كان سيكون في حالة تبخر، بينما في المناطق البعيدة يكون متجمداً. هذه المنطقة تسمى "خط الجليد"، وبالنسبة للشمس فإن هذا الخط يقع بعيداً عنها، أما نحن فكنا في الداخل حيث لا وجود للماء بشكل طبيعي. لذلك عندما تشكلت الأرض لم يكن عليها ماء. كان على الماء أن يأتي من مكان آخر، ونحن نعلم تقريباً – بل نحن شبه متأكدين – من مصدر هذا الماء: لقد جاء من النيازك.
في مرحلة محددة من تاريخ الأرض، حدثت تصادمات هائلة مع نيازك جلبت المياه إليها. استمرت هذه المرحلة بضع مئات من ملايين السنين، وتُعرف بالإنجليزية باسم "Late Heavy Bombardment"، أي القصف المتأخر، حيث تعرضت الأرض لاصطدامات نيزكية مكثفة.
كانت هناك فرضية أخرى تشير إلى أن المياه قد تكون جاءت عبر المذنبات، لكن المعرفة الحالية تؤكد أن مصدرها الأساسي هو النيازك، وذلك due to اختلاف التركيب الكيميائي للماء - لأسباب علمية لا يتسع المجال لشرحها هنا.
عندما بردت الأرض - بعد حوالي أربعمائة إلى خمسمائة مليون سنة من توقف تلك الظروف العنيفة والاصطدامات واستقرار الوضع - نشأت الحياة. فأول دليل على وجود الحياة يعود إلى 3.7 مليار سنة، بينما يعتقد الكثيرون أن أشكال الحياة الأولى ظهرت قبل أربعة مليارات سنة.
في اللحظة التي أتيحت فيها للأرض فرصة لنشوء الحياة، ظهرت الحياة عليها. وهذا أمر مدهش حقاً. ما يعنيه هذا أن تكوّن الحياة ليس أمراً صعباً، بل هو ليس معقداً بشكل جنوني.
سأعطيك سبباً آخر لقولي هذا: عندما ننظر إلى مركبات الحياة الأساسية، نجد بالطبع عناصر مثل الكربون والهيدروجين والنيتروجين وغيرها كما ذكرنا، لكن هناك أيضاً مركبات كيميائية خاصة بالحياة. هناك أربعة أنواع من هذه المركبات المعقدة، جزيئات معقدة هي: البروتينات، والدهون (التي تسمى Lipids)، والنيوكليوتيدات التي تكوّن الأحماض النووية مثل DNA، والسكريات.
عندما ن الفضاء، نجد آثار هذه المركبات. ففي الكون الواسع، عند انفجار النجوم وغيرها، نرى جزيئات عضوية معقدة موجودة في الفضاء. منها الأدينين - وهو أحد المركبات الأساسية في DNA - الموجود في الفضاء ويمكن رصده. كما توجد نيازك من النوع المعروف باسم "الكربونية" التي تتكون principalmente من الكربون، ويمكننا دراستها وتحليل تركيبها الكيميائي.
ففي المغرب، على سبيل المثال، عُثر على نيزك شهير من هذا النوع (وفي تونس أيضاً)، وأظهر التحليل الكيميائي للصخرة النيزكية احتواءها على مواد عضوية تتضمن الأدينين والأحماض الأمينية التي هي مركبات البروتينات وغيرها. فالكون يصنع لبنات الحياة في كل مكان، ونجد هذه اللبنات منتشرة في كل مكان.
وهذا ما اكتشفه شخص آخر - أحب أن أذكره في سياق مختلف - وهو تجربة "ميلر"، التي يمكننا العودة إليها لاحقاً ومناقشتها بتفصيل. عندما نعيد في المختبر محاكاة الظروف التي كانت سائدة على الأرض في بداياتها، بما في ذلك تركيب الغلاف الجوي المبكر، ونضيف شرارات كهربائية البرق وخلط المواد - كما نتوقع أن يكون الحال في الغلاف الجوي الأول للأرض - تنتج أيضاً مواد عضوية، منها الأدينين ومركبات أخرى مشابهة، بالإضافة إلى المواد البروتينية وغيرها. إنها نتيجة مذهلة حقاً.
يبدو واضحاً أن مركبات الحياة منتشرة في جميع أنحاء الكون. هذا لا يعني أن هذه المركبات تتحول تلقائياً إلى حياة، لكن الأرض تمثل مثالاً حياً: فما أن استقرت وبردت حتى بدأت الحياة بالظهور عليها. والحياة التي نشأت على الأرض كانت بالطبع بدائية، تتألف من كائنات وحيدة الخلية. أما الكائنات المعقدة، ما نسميه متعددة الخلايا، فقد نشأت فقط قبل 500 إلى 600 مليون سنة، أي أنها لم تكن موجودة منذ البداية.
معظم أشكال الحياة عبر التاريخ الجيولوجي كانت وحيدة الخلية، وليست معقدة. بل إن معظمها لم يكن حتى من نوع الخلايا المشابهة لخلايانا، بل كانت من نوع آخر يسمى "بدائيات النوى"، بينما تسمى خلايانا "حقيقيات النوى". فالبكتيريا مثلاً خلاياها تفتقر إلى نواة محددة. والحياة على الأرض خلال معظم تاريخها كانت من هذا النوع البسيط.
هنا تكمن إجابة سؤالك: لماذا أعتقد أن الحياة ظاهرة طبيعية؟ لأننا نراها تتسم بتنوع هائل، وتتكيف مع بيئاتها وشروطها المختلفة، ولها تاريخ محدد نعرفه بدقة. والأمر المذهل أيضاً أن جميع أشكال الحياة تعتمد على الهيكل الأساسي نفسه: الخلية والـ DNA والعناصر نفسها. فأنا والبكتيريا لدينا DNA. إنها حقيقة مدهشة: فأنا لست مختلفاً كلياً عن البكتيريا. فالكائنات المعقدة - من حيث سلوكنا وإدراكنا ولغتنا ووعينا وذكائنا - تشترك في الأساس الكيميائي والهيكل الخلوي المتشابه. حتى الآثار البكتيرية في خلايانا، مثل الميتوكوندريا التي تحمل DNA خاصاً بها، تظل شاهداً على تاريخ تطور الخلايا المعقدة في الحياة.
فلذلك أتعامل مع الحياة كظاهرة طبيعية. الحياة، الوعي، المدركة التي تفكر، التي تتعامل، التي تتساءل عن موجودة في الكون، ظهرت مؤخراً، ليست ظاهرة من بداية الكون. فهذا الجواب لهذا السؤال.
لقد استبقتُ الأمور بالسؤال الثاني حول الإنتروبيا. لكن لعل الفارق الجوهري بيني وبين البكتيريا يكمن في مسألة التعقيد. لقد تطرقتم في الكتاب بشكل موسع إلى مفهومي التعقيد والإنتروبيا، وقد جئتُ بالمثال الذي أمامنا: كيف نفسر عملية حيوية مثل التكاثر على أنها آلية للتخلص من الإنتروبيا؟ بكلمات أخرى، كيف يمكننا فهم الظواهر الحية من منظور فيزيائي بهذه الطريقة؟
وما الذي يحدث على مستوى التعقيد؟ ولماذا بقيت البكتيريا على حالها بينما استمر هذا التعقيد بالتطور في اتجاه آخر؟ فتطورت إلى كائنات متعددة الخلايا، ثم ظهر التكاثر الجنسي، وصولاً إلى ظهور الذكاء لاحقاً. وكل هذه العمليات تبدو بشكل أو بآخر مرتبطة بمفهوم التعقيد، هذا صحيح.
دعوني أوضح أولاً نقطة قد لا تكون واضحة للجميع. سأعرّف الإنتروبيا، وعندما أتناول هذا الفرع سأشرح للمستمع ما نقصده عندما نتحدث عن الإنتروبيا. ولكن قبل ذلك، يجب أن أشير إلى أن حتى الخلية البكتيرية - وقد تطرقتُ للفرق بيننا وبينها من حيث التعقيد - هي في الواقع معقدة بشكل هائل. فالبكتيريا، على سبيل المثال، تتكاثر عبر انقسام الخلية إلى قسمين. أي أن الخلية البكتيرية الواحدة تنقسم لتصبح خليتين مستقلتين. هذه آلية تكاثر تختلف عن تلك الموجودة في الكائنات الأكثر تعقيداً.
السؤال المهم هو: كيف تتمكن البكتيريا عند تكاثرها من الحفاظ على المعلومات الموجودة داخلها؟ هذا المستوى من التعقيد والتنظيم ليس أمراً يسيراً. وهنا نصل إلى نقطة مشتركة بين جميع أشكال الحياة - فالتعقيد سمة عامة لكل مظاهر الحياة. حتى البكتيريا تمثل نظاماً معقداً للغاية. وهنا تبرز الملاحظة الأولى - صحيح أننا أكثر تعقيداً منها - لكن إشكالية التعقيد تطرح نفسها حتى مع البكتيريا. فما علاقة هذا بقوانين الفيزياء؟
أريد أن أناقش مسألتين.