حكايات من الكتب

المدينة الفاضلة


Listen Later

في قديم الزمان، أو ربما في مستقبل مشرقٍ طالما حلم به الفلاسفة، تصور حكيمٌ عظيمٌ يُدعى الفارابي، مدينةً لا مثيل لها، مدينةً تتوقُ النفوسُ إليها، سماها "المدينة الفاضلة". لم تكن هذه المدينة مجرد مكانٍ للعيش، بل كانت تجسيدًا للكمال البشري والسعادة الأبدية. بدأ الفارابي قصته بتأكيد حقيقةٍ أساسيةٍ عن بني البشر: الإنسان كائنٌ اجتماعيٌ لا يستطيع تحقيق كماله وسعادته بمفرده. إنه يحتاج إلى العيش مع الآخرين والتعاون معهم لإشباع حاجاته وتحقيق غاياته السامية. وهذا التعاون هو أساسُ المجتمعات الكاملة التي تهدف إلى السعادة. في هذه المدينة الفاضلة، كان لكل شيءٍ نظامٌ محكمٌ، يشبهُ نظامَ الكون العظيم. فكما أن الوجود يبدأ بـ "الموجود الأول" وهو الخالق سبحانه وتعالى، ثم تتفرع منه مراتبُ من الكائنات الروحانية والعقولِ التي تُدبّر الكون، وصولاً إلى الموجودات المادية، كذلك المدينة الفاضلة يجب أن تُبنى على هذا الأساس الهرمي والمنظم. وكان قلبُ هذه المدينة النابض وروحُها الحكيمة هو رئيسُها. هذا الرئيس ليس كأي قائدٍ، بل هو الإنسان الكامل الذي يجمع في شخصه خصالاً فطريةً ومكتسبةً تليقُ بأسمى درجاتِ الرياسة. كان يتمتعُ بصحةٍ بدنيةٍ ممتازةٍ، وذكاءٍ حادٍ، وذاكرةٍ قويةٍ، ولسانٍ فصيحٍ يُبينُ كل ما يضمر. يحبُ العلمَ والتعلمَ، ويكرهُ الظلمَ والجورَ، ويُحبُ العدلَ ويُبغضُ الكذبَ. شجاعٌ ومقدامٌ، قويُ العزيمةِ، وكريمُ النفسِ متسامٍ عن الدنايا. والأهم من كل ذلك، أن روحَه تتصلُ بـ "العقل الفعّال"، فتتلقى منه الإشراقَ والمعرفةَ الإلهيةَ مباشرةً دون وسيط. وبذلك، يصبحُ قادراً على إدراكِ الحقائقِ الكليةِ، ويسوسُ المدينةَ بمنزلةِ الوحي. الفارابي يرى أن هذا الرئيس يجب أن تتوافر فيه ست عشرة صفة فطرية وست صفات مكتسبة. أما بقيةُ أهلِ المدينة الفاضلة، فكانوا كـ أعضاء الجسد الواحد. لكلٍ منهم وظيفته ودورُه، ويعملون بتناغمٍ تحت إشرافِ الرئيس لتحقيقِ الهدفِ الأسمى. فمنهم من يتقدمُ في العلمِ، ومنهم من يبدعُ في الصناعاتِ، ومنهم من يخدمُ في شؤونٍ أخرى، وكلما كانت أعمالهم أكملَ وأفضلَ، زادَ ميلُهم نحو السعادة. فالسعادةُ لا تُنالُ إلا بالأعمال الفاضلةِ التي تكررت وزادتْ جودةَ النفسِ وميلَها إلى الخير. الهدفُ الأسمى لسكان هذه المدينة كان تحقيق السعادة الحقيقية، والتي لا تتحققُ إلا بالتعاونِ الصادقِ بين جميعِ أفرادِ المجتمع. فالناسُ فيها يكتسبون الفضائلَ، وتسمو نفوسهم لتصلَ إلى أرقى درجاتِ الصفاء والكمال، متحولين من قوة الإدراك والتخيل إلى الفعلِ والعقلِ المستفادِ والعقلِ الفعال. ولكن، الفارابي لم يكتفِ برسم هذه الصورةِ المثاليةِ. فقد قارنَ المدينة الفاضلة بمدنٍ أخرى غيرِ فاضلةٍ، وهي:
  • المدينة الجاهلة: أهلُها لا يعرفون السعادة الحقيقيةَ، وإنما يسعون فقط للمتعِ الماديةِ كالغنى والشهرةِ والأهواءِ، أو السلطةِ والغلبةِ، دونَ سعيٍ للفضيلةِ أو المعرفةِ.
  • المدينة الفاسقة: يعرفُ أهلُها السعادةَ بالقولِ، ولكنْ أعمالُهم لا تتوافقُ معها.
  • المدينة الضالة: تعتقدُ مبادئَ خاطئةً وآراءً فاسدةً حولَ السعادةِ وواجباتِ الإنسان.
  • المدينة المتبدلة: كانت فاضلةً في الأصلِ، لكنها انحرفتْ وتغيرتْ أهدافُها وأعمالُها عن المبادئ الأولى.
وفي الختامِ، أكد الفارابي أن المدينة الفاضلة لا يمكن أن تستقرَّ وتدومَ إلا إذا توفر فيها رئيسٌ بهذه الصفاتِ الكاملة. وإذا لم يكن هناكَ مثلُ هذا الرئيسِ الذي يمتلكُ هذه الشروطَ، فإنَّ المدينةَ قد تُصبحُ عرضةً للهلاكِ. وهكذا، كانت قصةُ المدينة الفاضلة للفارابي قصةَ أملٍ في مجتمعٍ يرتقي فيه الإنسانُ إلى أقصى كمالهِ الروحي والفكري، بتوجيهٍ من قائدٍ حكيمٍ ونفوسٍ متآلفةٍ تسعى للخيرِ والسعادة الأبدية.
...more
View all episodesView all episodes
Download on the App Store

حكايات من الكتبBy حكايات من الكتب