في قلب مدينة صاخبة، وفي عيادة الدكتور أيمن شوقي، المعالج النفسي، اجتمع عدة أشخاص يحمل كل منهم عبء حياته. كان المكان يوحي بالتفاؤل بعض الشيء، مع حوائط باللون الأخضر الفاتح وإضاءة خافتة مريحة. كان هؤلاء الأشخاص على وشك مشاركة قصصهم في جلسة علاج نفسي جماعي.
أول من بدأ الحديث كان شاب يدعى محمود أحمد. قصته بعنوان "عجوز في العشرينات". روى محمود عن هروبه المستمر من الواقع، خوفه من الفشل، ومشاكله مع عائلته. شعر دائمًا بأنه فاشل وغير مرئي، وأن الحياة صعبة وطويلة بلا نهاية. تحدث عن رغبته في العزلة والموت كوسيلة وحيدة لإيقاف تدخله في حياة الآخرين وجعلهم سعداء. وصف علاقته بعائلته، خاصة والده الذي كان دائمًا يرى فيه الفشل رغم محاولاته التفوق. شعر بأنه يُعامل كعبد لا كابن. كانت رغبته في الموت قوية لدرجة أنه تمنى أن يأتيه سريعًا.
تلتْه شابة بشعر أشقر، اسمها ناردين. عنونت قصتها بـ "وصمة العار محطمة: لا تعاني بصمت". تحدثت ناردين عن معاناتها مع اضطراب القلق والاكتئاب. شعرت أن هذين المرضين يعتبران ضعفًا في الشخصية، وهو اعتقاد سائد في مجتمعها. كانت تشعر بالعار من اكتئابها لأنها تعيش حياة مرفهة ولديها مسيرة مهنية ناجحة. ظلت في حالة إنكار حتى انتحر ابن عمها المقرب، عاصم، الذي كان يصغرها بعامين فقط ولم يخبرها أبدًا بمعاناته النفسية. أدركت أن الصمت والخجل يمكن أن يقتلا. قررت أن مواجهة مرضها ليست ضعفًا، وأن الشعور بالفراغ الداخلي يجعلنا نبحث عن طرق لمداواة الذات. تمنت أن يتعلم أحد من قصتها أن طلب المساعدة ليس عيبًا.
بعدها تحدثت امرأة عجوز بشعر أبيض كالثلج، تدعى جوليان. عنونت قصتها بـ "انفصام حاد". روت جوليان عن معاناتها المزمنة مع مرض انفصام الشخصية. قضت سنوات طويلة في مستشفيات الأمراض النفسية. وصفت الذهان بأنه مرض في الدماغ سمته الهلوسات والأوهام التي تجعل الشخص بعيدًا عن الواقع. تحدثت عن تجاربها مع الأوهام التي كانت تتخيل فيها أنها قتلت المئات أو أن قنابل نووية على وشك الانفجار في رأسها، وتجربة الهلوسة البصرية التي رأت فيها رجل يحمل سكينًا. وصفت كلامها وتفكيرها المشوش في كثير من الأحيان. رغم التكهن الخطير لحالتها بأنها ستقضي حياتها في الرعاية أو وظائف وضيعة، فقد تمكنت من البقاء خارج المستشفى لعقود وأصبحت أستاذة قانون وطب نفسي وعلوم نفس في الجامعة. شاركت حادثة من بداية مرضها عندما بدأ كلامها يصبح بلا معنى لزملائها، وانتهى بها الحال في غرفة الطوارئ وتقييدها جسديًا. انتقدت استخدام القيود الجسدية في المستشفيات، واصفة إياه بأنه مهين ومؤلم ومخيف، وقد يؤدي إلى الوفاة. أكدت أن المرضى النفسيين ليسوا مختلفين عن الآخرين في رغبتهم في عدم التعرض للقيود الجسدية. رغم تحسن حالتها، قاومت الأدوية لسنوات معتقدة أنها ستثبت أنها ليست مريضة عقليًا إذا استطاعت العيش بدونها. لكن محاولاتها الفاشلة لترك الأدوية قادتها إلى تجارب ذهانية قاسية. في النهاية، تقبلت حقيقة مرضها وتناولت الأدوية، ووجدت دعمًا في العلاج النفسي، والأصدقاء والعائلة، وبيئة العمل. أكدت أن مرضى الذهان ليسوا مجرد تشخيصات بل أشخاص بتجارب عميقة.
تحدث بعد ذلك شاب قوي البنيان، يدعى عزيز. عنوان قصته كان "المرض القاتل". وصف عزيز نفسه بأنه شخص يعاني من الاعتلال الاجتماعي (السايكوباثية). تحدث عن ميله للخداع، صعوبته في فهم الإشارات الاجتماعية والعواطف لدى الآخرين. أكد أنه ليس قاتلًا أو مجرمًا رغم أن الاعتلال الاجتماعي سمة شائعة بين نزلاء السجون. وصف ابتسامته التي وصفها بأنها "تحديق المفترس" وقدرته على استخدام السحر والثقة لدفع الناس لفعل أشياء ما كانوا ليفعلوها. روى عن طفولته كطفل أوسط في عائلة عنيفة. تحدث عن تجاهل والديه لمحاولاته التي وصفها بالفاضحة والمربكة، وفشلهما في ملاحظة عدم قدرته على تكوين روابط حقيقية مع الآخرين ورؤيته لهم كأشياء متحركة. وصف شعوره بالقوة والسلطة عندما يزرع الخوف في الآخرين. تساءل عما إذا كانت يداه ستتلطخ بالدماء لو نشأ في بيئة أسوأ.
أخيرًا، تحدثت امرأة بصوت مختنق، اسمها فاطمة. عنونت قصتها بـ "صُنعت من الحساسية". شعرت فاطمة بأنها الخاسرة في عالم يريد أبطالًا خارقين. روى عن طلبها المساعدة في المدرسة وإرسالها لمستشفى الأمراض العقلية حيث شعرت بالانتماء. رأت أن المستشفى، بخلاف المدرسة، مكان لا يحتاج فيه الشخص للتمثيل بل لمشاركة مشاعره كما هي. تعلمت هناك دروسًا في الاستماع واكتساب القوة لسرد القصص كما هي. رغم إدمانها للكحول ومعاناتها المستمرة من القلق والاكتئاب، تقبلت حقيقة أنها شخصية حساسة وأن هذه الحساسية ليست شيئًا يجب إخفاؤه أو إصلاحه. هي الآن تساعد الآخرين على خلق عالم لا يحتاجون فيه لإخفاء مشاكلهم تحت عباءة البطل الخارق.
بعد سماع القصص، تحدث الدكتور أيمن عن وصمة العار التي لا يزال يواجهها المرضى النفسيون. أشار إلى أن كثيرين يعانون بصمت ويكتئبون بصمت، وأن الأمر قد يصل إلى الانتحار بصمت. ذكر إحصاءات منظمة الصحة العالمية عن الانتحار، وأنه ثاني سبب رئيسي للوفاة بين الشباب بسبب الخوف من البوح، والخوف من الاعتراف بما يثقل القلب، والخوف من زيارة طبيب نفسي، والخوف من تهمة "مريض نفسي" التي خلقتها المجتمعات.
ثم تحدث عن مشروع "مقعد الصداقة" الذي تديره الجدات في أفريقيا. روى قصة امرأة شابة مصابة بفيروس نقص المناعة المكتسب وفقدت زوجها وعاطلة عن العمل، وفكرت في الانتحار. لم تستطع زيارة الطبيب لعدم امتلاكها أجرة الحافلة. أدرك الدكتور أيمن أن الجدات هن العناصر الأكثر جدارة بالثقة في المجتمعات الأفريقية، فقام بتدريبهن على الاستماع التعاطفي. المشروع حقق نجاحًا كبيرًا في خفض أعراض الاكتئاب والأفكار الانتحارية.
في ختام الجلسة، تحدث الدكتور أيمن عن أن كل شخص يضع عنوانًا لقصته بناءً على معتقداته. وأكد أن الأشخاص الذين شاركوا قصصهم ليسوا وحدهم من يفعل ذلك، بل كل البشرية. المصحات قد وضعت عناوينًا للمرضى، لكن عقول المرضى هي من فرضت عليهم أحيانًا هذه العناوين وجعلتهم معميين عن الرؤية. ختم الجلسة مؤكدًا أننا جميعًا بشر، وأن مرضى الأمراض النفسية يريدون فقط أن يُحبوا ويعملوا.