كان فيه إنسان مخلوق من أجزاء كتير: جسد، ومشاعر، وأفكار، وكلام. كان المفروض كل الأجزاء دي تكون متناغمة وحتة واحدة عشان الإنسان يكون سليم نفسيًا. لكن اكتشفنا إن كتير مننا عايش وأجزاؤه دي متفرقة عن بعض، كلامه في حتة وجسمه في حتة تانية ومشاعره في حتة تالتة وأفكاره في حتة رابعة، وكل حاجة فيهم بتقول معنى غير التاني وماشية في اتجاه مختلف. جسم الإنسان ده بالذات طلع فيه أسرار وحكايات. هو الأصل، أقدم بكتير من أي لغة لفظية. الجسم بيخزن كل تجربة مؤلمة أو مش مريحة، بيفضل حافظها بكل تفاصيلها مع السنين. وده ممكن يظهر بعد كده في صور كتير زي الصداع المزمن، أو القولون العصبي، أو المشية المتخشبة، أو حتى كره الشخص لجسده وإهانته. للأسف، كتير مننا بينسى الأصل ده وينشغل بالفروع. جوة كل واحد فينا كمان فيه شخصيات أو حالات مختلفة عايشة: فيه الطفل اللي بيطلع وقت الفرح واللعب والتلقائية، وفيه الوالد الناقد اللي بيوجه اللوم والنقد، وفيه الراشد اللي بيفكر بمنطقية. الحالات التلاتة دول موجودين جوانا من وإحنا صغيرين. معرفة مين بيتكلم من جوانا ولمين بنخاطب في اللي قدامنا حاجة في غاية الأهمية والخطورة. الإعلانات والدعاية، مثلًا، بتستدعي الطفل الحر اللي جوانا عشان عنده رغبة في الاستطلاع والشراء. لكن الطريق مش سهل، لأن من وإحنا صغيرين بتوصلنا رسائل نفسية كتير، خصوصًا من الأهل، بتتحول لجزء من تكويننا النفسي. رسائل زي "إنت متستاهلش"، "إنت أقل من غيرك"، بتفضل تتكرر جوانا ويطلعلنا صوت داخلي بيقولنا "إنت قليل". الرسائل دي بتخلي الشخص عمره ما يحس إنه عمل اللي عليه، وبيتملكه الشك في كل حاجة بيعملها، وبيحس بالذنب والتقصير باستمرار. الصـوت ده لغته كلها قايمة على "لازم" و"المفروض". كتير من التربية القاسية بتغرس فينا الكرباج ده. نتيجة الرسائل دي وتجارب الحياة الصعبة، ممكن الإنسان يحس إنه مرفوض، مالهوش قيمة أو لازمة. ده بيجرح أعمق أعماقه في إحساسه بوجوده ومعناه. ولما يحصل صدمة نفسية شديدة، العقل ممكن يرجع لآخر مرحلة حس فيها بالأمان، غالبًا الطفولة. وساعات بيرجع أبعد من كده، قبل شهوره الأولى اللي محسش فيها بأمان، وساعتها بيقرر يرجع للرحم، لحياة الجنين اللي كانت آخر مرحلة فيها أمان تام. أحلام البحر والغطس فيه والنوم في وضع الجنين كلها ليها نفس التفسير ده ورغبة في استعادة أمان الرحم. لكن الرغبة دي ممكن تبقى هروب من الحياة لو فضلت مسيطرة. الحياة الحقيقية محتاجة مجهود وكفاح ومواجهة للتيار والموج. أبشع حاجة ممكن تحصل هي لما العقل يدور على الأمان بعد الصدمة وميلاقيهوش حتى في الرحم، وساعتها بيقرر ينفصل عن العالم، يعيش ميت، يبقى زي النبات أو الجماد. للأسف، الرسائل السلبية اللي بتوصلنا ممكن تتحول لـ نبـوءة لازم تتحقق. الشخص اللي وصلته رسالة "إنت متستاهلش" هيفضل يدور طول الوقت على شخص يعامله إنه متستاهلش. وده بيخليه طرف في لعبة درامية بائسة، ممكن يلبس فيها دور الجاني أو الضحية أو المنقذ. مهم جدًا متلبسش أي دور حد يحاول يلبسهولك وتخرج بسرعة من اللعبة دي. فيه كمان حاجة اسمها التقمّص، اللي هي إننا بنتقمص أشخاص تانية، خصوصًا اللي بنحبهم عشان نحس إننا قريبين منهم، أو اللي اعتدوا علينا عشان منخسش بالضعف. التقمص ده ممكن يكون مطلوب للتعلم والنمو، نتعلم حاجة من حد وبعدين نقلعه زي الجاكيت. لكن لو التقمص ده اتحول لجاكيت جبس مبنقلعهوش، يبقى عمى وعدم وعي وممكن يؤذي النفس أو الغير. مجتمعنا ليه دور كبير كمان في تشكيلنا، خصوصًا في زرع أدوار اجتماعية وقوالب جاهزة للرجالة والستات. الست بتتعرض لقهر وتشويه واختزال، وبتوصلها رسايل مؤذية عن جسمها وأنوثتها وقيمتها. والراجل بتوصله رسايل عن إنه الراجل ميعيبوش غير جيبه، وإنه لازم يكون قوي، وده بيتشوه رجولته برضه. العلاقات هي ساحة كبيرة بتظهر فيها كل الألاعيب دي. فيه علاقات مالهاش مسمى واضح، بتستنزف الطاقة والمجهود وتخلينا خايفين. فيه علاقة التقديس اللي فيها طرف بيشوف التاني مثالي ومصدر الأمان الوحيد، وده بيخليه طفل بيدور على الرضعة باستمرار، ومبيشوفش الشخص التاني على حقيقته، وممكن يقلب عليه لو طلباته متلبتش. فيه علاقات العمى اللي كل طرف شايف التاني بالصورة اللي راسمهاله في دماغه، ومحدش فيهم عامل علاقة حقيقية غير مع نفسه ومع السراب، ودي علاقات عمرها قصير أو مؤذية. فيه علاقات قايمة على الاندفاعية وعدم التفكير في العواقب، خصوصًا لو مع شخص مندفع ممكن يرمي كل اللي معاه في ثانية أو يؤذي نفسه أو غيره في لحظة. فيه كمان علاقات قايمة على الخداع والتالاعب، شخص ممكن يتفنن في الكذب والتوريط ويأذي أي حد بدون ذرة إحساس بالندم. ده الشخص السيكوباثي اللي لازم يا إما يتعالج يا إما تهرب منه فورًا. فيه علاقة مع شخص سلبي وخواف لدرجة إنه بيخاف يقول "لأ" وبيوافق على حاجات هو مش مقتنع بيها عشان يرضي اللي قدامه. وفيه علاقة مع شخص شـكاك بيشك في كل تصرف ونية للطرف التاني بدون أي دليل حقيقي. علاقة المدمن مؤذية جدًا للشخص اللي معاه، والأصعب إن ساعات الطرف التاني مش بيرضى يسيبه. أخطر حاجة هي لما تعمل علاقة وحشة مع نفسك. يا إما تشوف في نفسك الحاجات الحلوة بس وتحس إنك أحسن واحد في الدنيا، يا إما تشوف الوحش بس وتحس إنك أسوأ واحد. الزواج نفسه مش علاقة، هو مجرد إطار لعمل علاقة، فرصة لده. كل اللي بيحصل قبله بيمهّد لوضع الطرفين في ظروف مناسبة لنجاح العلاقة أو فشلها. العلاقة دي ممكن تفشل لو الطرفين اختزلوا بعض، أو خنقوا بعض بالهموم والشكوك، أو فضلوا يعجزوا بعض ويطلبوا طلبات مابتخلصش، أو يتشعلقوا في بعض ويخلوا سعادتهم معتمدة على العلاقة بس مش على ربنا ولا على نفسهم. فيه علاقات بتحصل بين مجموعات برضه. ممكن المجموعة تنفصل عن العالم وتحس إنها متهددة طول الوقت وتعيش في وهم المؤامرة والكراهية. والأخطر إن المجموعة دي ممكن تدوب الفروقات بين أفرادها ويبقوا شبه بعض، نسخ ممسوخة، وده بيلغي أي إبداع أو اختلاف. وممكن المجموعة تختار حد تخليه كبـش فـداء ترمي عليه كل اللي مش قابلاه في نفسها من ضعف أو كره أو نرجسية. وكبش الفداء ده مش دايما ضحية، ساعات بيكون له دور إنه بيسمح بالأذى وبيدي فرصة للي حواليه يرموا عليه بلاويهم. كل المشاكل دي جذورها بترجع لإننا بنتعامل بـ "نفس مزيفة" مصنوعة عشان تعرف تتعامل مع اللي حواليها، نفس دفنت تلقائيتها وصوتها وربما جزء كبير من أنوثتها أو قدراتها. النفس المزيفة دي بنتناها عشان كنا محتاجين نتحب ونتقبل، واتعلمنا إن ده مش هيحصل غير لو عملنا اللي هما عايزينه ("اسمع الكلام عشان أحبك"). وبنفضل نكبر ونتجوز ونعمل علاقات بالنفس المزيفة دي، ونعيش ونموت وإحنا عمرنا ما بقينا نفسنا الحقيقية. لكن فيه أمل. الأمل ده بيبدأ لما نصدق إن المرض النفسي ممكن يبدأ بقرار، يبقى مقاومته والعلاج منه بيحصلوا برضه بقرار. فيه لحظة فارقة بيقف فيها الإنسان قدام اختيار: يا يقاوم ويتحمل، يا يستسلم للوساوس والأفكار ويدخل في كهف الاكتئاب أو إلغاء الناس، يا يختار الحياة يا الموت. الخروج من صندوق الأمان المزيّف ده بيتطلب شجاعة وقرار إننا نشوف العالم ونفسنا بعيون جديدة، كأننا بنتولد من جديد. أعلى درجات النمو النفسي هي لما نقرر نقبل احتمالات الفقد ونستحمل الألم ونكمل. ده معناه إننا بنختار نـ نحيا، مش بس نعيش. والحزن، زي الفرح والغضب والخوف، هو حق إنساني، مش عيب ولا ضعف. مينفعش نقصه مننا، لأن لو قصينا الحزن، هنقص الخوف، وبعده أي حاجة بتوجع، وفي الآخر مش هيفضل من إنسانيتنا الحقيقية الضعيفة غير شتات وبقايا مهلهلة. الحزن ممكن يجيب حكمة ويولد أمل. قبول الموت اللي جوانا معناه قبول ضعفنا وفشلنا وتقصيرنا. العلاقة الصحية الطيبة هي اللي بتغيّر وتصلح وتعالج. هي اللي فيها الشخص بيتقبلك ويحبك بدون شروط. ده مش معناه إنه يوافق على كل اللي بتعمله، القبول حاجة والموافقة حاجة تانية. لكنه بيقبل وجودك وعيوبك وأخطاءك، وعنده استعداد يساعدك تتغير بدون ما يضغط عليك أو يحسسك بالذنب أو يهددك. هي كمان علاقة فيها الطرفين بيعرفوا يسمعوا بعض بجد واهتمام. الرحلة دي كلها عشان نعرف نفسنا بكل تفاصيلها ونقبلها. ولما نقبل نفسنا ونعرفها كويس، ونقبل اللي حوالينا كمان، ده بيفتح باب الأمل والنور. انتهت الحكاية، وبدأت رحلتك أنت.