في قديم الزمان، وقبل أن تضيء الشاشات عالمنا، كان لعقل الإنسان قصة مختلفة. كان هذا العقل يجد متعة في التفكير العميق والقراءة المركزة. كان لديه القدرة على الغوص في أعماق النصوص المعقدة وبناء فهم شامل، وكأنما كان يتبع طريقاً مستقيماً و"خطيًا" في معالجة الأفكار. عرف العقل تحولات عبر التاريخ مع ظهور تقنيات جديدة مثل الكتابة ثم المطبعة، والتي غيرت من طريقة تفاعله مع المعرفة، لكنه ظل يحتفظ بقدرته على التركيز العميق. فالعقل البشري مرن وقابل للتغيير، وهذه الخاصية تسمى اللدونة العصبية (Brain plasticity). لكن العصر الحديث حمل معه ثورة جديدة، عصر الإنترنت والتقنيات الرقمية. فجأة، وجد العقل نفسه محاطاً بفيض لا يتوقف من المعلومات، مرتبطة ببعضها البعض عبر روابط تشعبية (hyperlinks)، وتأتيه من كل مكان بسرعة البرق عبر محركات البحث (مثل جوجل) وشبكات التواصل الاجتماعي (فيسبوك، ماي سبيس، تويتر). تأقلم العقل مع هذا العالم الجديد بسرعة، فهو بارع في التكيف. أصبح يتقن فن التنقل السريع بين الصفحات، والمسح الضوئي للنصوص بدلاً من قراءتها بعمق. اكتسب مهارة تعدد المهام (multitasking)، حيث يقفز من مهمة لأخرى بسرعة. لكن هذا التكيف لم يمر دون ثمن. بدأ العقل يلاحظ أن قدرته على التركيز العميق والاحتفاظ بالمعلومات لفترة طويلة تتضاءل. الشعور بالانشغال الدائم والتدفق المستمر للمعلومات جعله يفقد "صبره" على التفكير البطيء والمتأني. تغيرت مساراته العصبية لخدمة السرعة والتشتت بدلاً من العمق والتركيز. وكأن العقل أصبح "سطحيًا"، يطفو على سطح المعلومات بدلاً من الغوص في أعماقها. بدأ بعض العلماء والخبراء يدرسون هذا التغيير. لاحظ جاري سمول (Gary Small) وماريان وولف (Maryanne Wolf) وآخرون كيف تتغير أدمغتنا حرفيًا تحت تأثير استخدام الإنترنت المكثف. أصبح الفص الجبهي (prefrontal cortex)، المسؤول عن الانتباه والتفكير العميق، يعمل بشكل مختلف. انقسمت الآراء حول هذا التحول. يرى البعض أن هذا التكيف إيجابي، فهو يجعل العقل أكثر كفاءة في التعامل مع حجم المعلومات المتزايد. يصف ستيفن جونسون (Steven Johnson) كيف أن الألعاب الإلكترونية والإعلام الرقمي يمكن أن تحسن بعض المهارات المعرفية وتجعلنا أكثر ذكاءً بطرق جديدة. ويرى البعض أن التفكير "الشبكي" الذي تفرضه التكنولوجيا يفتح آفاقاً جديدة للابتكار والتعاون. لكن الجانب الآخر يرى أننا نخسر شيئًا ثمينًا. نخسر قدرتنا على التأمل العميق، على بناء المعرفة المعقدة التي تتطلب تركيزاً مستمراً. يصبح عقلنا أشبه بمسار سريع للمعلومات، بدلاً من حديقة غناء يمكن التجول في دروبها المعقدة. وهكذا، تستمر قصة عقل الإنسان في العصر الرقمي. عقل يمتلك أدوات غير مسبوقة للوصول للمعلومات والتواصل، ولكنه في نفس الوقت يواجه تحديًا كبيرًا للحفاظ على قدرته على التفكير بعمق في عالم يفضل السرعة والسطحية. إنها معركة مستمرة بين فوائد الاتصال الدائم والوصول السريع، وبين قيمة التركيز الهادئ والتأمل العميق.