في عالم الفكر والأدب والسياسة، نَسَجَ إدورد سعيد قصة حياة عابرة للحدود، تاركاً أثراً عميقاً. تبدأ قصته مع شاب فلسطيني يصبح صوتاً عالمياً، من خلال تتبع خطواته في بيروت والقاهرة وأمريكا. في القاهرة ، عاش سعيد طفولة معقدة، في حي ذي طابع أوروبي كجزء من أسرة فلسطينية بروتستانتية، كانت أقلية داخل أقلية. على الرغم من انتمائهم إلى النخبة، شعر بالغربة وبعده عن هموم المجتمع. وُصف في حكايات العائلة بأنه "شقياً" و"كذاباً"، لكن أفرادها لم يوافقوا على ذلك. ربما أثرت وفاة طفلهما الأول قبل إدورد على تعلق والدته الشديد به. انتقل إلى أمريكا، منهياً تنقله بين المدارس. في ماونت هيرمن، واجه صعوبات أكاديمية ووصف بأنه لا يملك مستقبلاً في النظام البريطاني. شعر بالنبذ الاجتماعي بسبب حماسه للقضية الفلسطينية، واستاء من جهل الأمريكيين بثقافة وتاريخ مصر وفلسطين. على المستوى الفكري، استلهم سعيد من مصادر غير تقليدية. قَدَّر الناقد الهنغاري لوكاش الذي حث الروائي على حمل الواقع المعطوب وتحديه بمنظور مستقبلي إيجابي. تبنى هذا المنظور النقدي الذي يتحدى عطب الواقع بجرأة، واختار خلق منظور تخيلي مستقبلي. تأثر بفيكو ونظريته عن التكرار التاريخي، ورأى قيمة عالية في ابن خلدون ومفهوم "العصبية". الفيلولوجيا كانت أيضاً مصدراً للتفكير النقدي. في كتابه الأشهر، "الاستشراق"، لم يرسم سعيد خريطة لعلم الاستشراق، بل ركز على الأصداء التي ينتجها تمثيل الحياة العربية والإسلامية، وكيف تكتسب الأفكار مرجعية وتدعم نفسها دون لمس الواقع الفعلي. في "الثقافة والإمبريالية"، ناقش العلاقة بين الثقافة والقوة، وكيف يتم تصوير الحق في استيطان الأرض في الرواية. رأى أن الإمبريالية تمارس السيطرة عن بعد بإجراءات مالية. كان سعيد أيضاً ناشطاً سياسياً بارزاً. كان مستشاراً لمنظمة التحرير الفلسطينية وشرح موقفها السياسي الداعم لحل الدولتين. لكنه أصبح منتقداً شديداً لاتفاقية أوسلو، واعتبرها "خيانة" و"نهاية عملية السلام". استخدم لغة قاسية لوصف عرفات والسلطة الفلسطينية. عاش العقد الأخير من حياته في غضب وألم دائمين بسبب هذا، معتقداً أن حل الدولتين لم يعد ممكناً وأن الأراضي الفلسطينية أصبحت "مقطعة الأوصال، معرضة للإرهاب العسكري". واجه تحديات وضغوطاً كبيرة. شعر بالنبذ، وعاش هو وعائلته مهددين بسبب آرائه. واجه حملة لطرده من جامعة كولومبيا، لكن رئيس الجامعة دافع عنه مستشهداً بالحرية الأكاديمية. رغم الصعاب، عمل على فتح الأبواب للباحثين من الشرق الأوسط والعالم المستعمَر سابقاً في المؤسسات الراقية. شخصياً، كانت حياته مليئة بالتوترات. خضع لتحليل نفسي. علاقته بزوجته مايرة كانت معقدة ووُصفت بأنها "جافة" من قبل عائلته. عانى من مشاكل صحية وتم تشخيصه بالسرطان. أصبح طبيبه راي كانتر صديقاً مقرباً. الموسيقى كانت عنصراً حيوياً في حياته، وزودته بوسيلة للمعرفة والشعور. أسس مع دانييل بارنبويم أوركسترا "الديوان الغربي الشرقي" لجمع موسيقيين إسرائيليين وعرب بهدف تجاوز الصراع، رغم أنها واجهت مشاحنات وانتقادات. في سنواته الأخيرة، تخلى عن حذره في إغضاب زملائه. مع ضيق الوقت بسبب مرضه، تحدث عن "اللامتأخر" (Lateness) كفكرة مركزية. توفي إدورد سعيد بعد صراع مع المرض. وصفه أحدهم بأنه "مشاغب العالم العربي الذي لا يكترث باللياقة". رأى صديقه أندريه شارون أن سعيداً غير أمريكا بدلاً من أن يندمج فيها. رغم جاذبيته وأسلحته الفكرية، فقد بدا أن هدفه السياسي المركزي ظل بعيداً. لكن قصته هي قصة كفاح فكري وسياسي لا يتوقف، سعي دائم لتحدي الواقع وخلق منظور جديد.