ولدت في بلدة ركسبورج المزدهرة في ثمانينيات القرن التاسع عشر، حيث كانت مركزاً لصناعة المشغولات الذهبية ورعي الأغنام وزراعة الفاكهة. على الرغم من صغر حجم البلدة، إلا أنها لم تكن معزولة تماماً، وكان والدي، وهو مقاول بلدية ومزارع ماهر ومحب للمسرح، ذا حس دعابة عالٍ. تلقيت تعليمي الابتدائي في مدرسة البلدة، وكان ناظرها الاستثنائي دبليو إيه ريالي، استعمارياً قوياً حفزني للطموح والخروج لاستكشاف العالم، وهذا ما دفعني لاختيار الطب كمهنة. لم يكن العمل المهني شائعاً في عائلتي، ربما بسبب نقص فرص التعليم الثانوي في ركسبورج. في عمر السابعة عشر، حققت مكاسب كبيرة من المضاربة في بورصة الذهب، مما وفر لي رأسمال كافٍ لاستكمال دراستي في إدنبرج. كانت إدنبرج كما توقعت، باردة وضبابية ومدهشة. صدمت عندما علمت أنني غير مؤهل لمنحة فانز دانلوب لدراستي خارج الجامعة، لكنني فزت لاحقاً بمنحة أخرى في علم النبات والحيوان. بعد شهر عملي في فايف، حيث عايشت لحظات بؤس وشعرت بعدم جدوى الطب أحياناً، كان اختباري الأول في طب العيون، وفزت بميدالية تميز. كان من المفترض أن أعمل كجراح عيون، لكن لقائي بعميد الكلية الدكتور هارفي ليتل جون، الذي كان يرأس قسم الطب الشرعي أيضاً، غيّر مساري. اقترح عليّ العمل كمساعد له، وكان هذا هو القدر الذي جعل تخصصي هو الطب الشرعي. كان هارفي عالماً رائداً وأستاذاً مسرحياً في إلقاء المحاضرات، ومن خلال عملي معه، شاهدت ألواناً شتى من أساليب الإجرام وحيل الجناة وتوليت أولى قضاياي. قضيت أحد عشر عاماً في مصر، تجربة لا تقدر بثمن شكلت الكثير من خبرتي. كانت القاهرة في العشرينيات مرتعاً للبؤس والأمراض والجهل، مما جعلها حقلاً خصباً لمختلف أنواع الجرائم من التسميم بالزرنيخ إلى الخنق وتقطيع الضحية. واجهت وباء التيفود في معسكر ترينثام. رأيت المصريين بطيبتهم وسماحتهم، وأبديت آراء معتدلة عن عقائدهم وعاداتهم دون استعلاء. كانت القضايا في مصر متنوعة ومثيرة. شاهدت حالات تسمم بالزرنيخ والهينبان، وتعاملت مع حالات نبش القبور. عايشت قصة ريا وسكينة اللتين استدرجتا الداعرات وقتلن وسرقن حليهن ودفن جثثهن تحت الأرض. عاينت بيتاً في صعيد مصر مليئاً بملايين البراغيث في قضية مقتل فلاح فيه. تعرفت على مهنة "المحلل" الغريبة التي نشأت عن قانون الطلاق. في قضية زينب وفاطمة المعقدة، بدأت بالبحث عن جثة زينب المفقودة، لكن العثور على جثة أخرى في بئر، ثم جثة في بالوعة، وقراءة الأدلة المادية مثل عمر الجثث وصفاتها، قادني لكشف حيلة تضليل. تبين أن عائلة زينب حاولت توريط زوجها برشوة والد فاطمة لوضع جثتها في البئر، وأن زوج زينب هو القاتل الحقيقي. في الإسكندرية، عثر على جسد أنثى مقطوع نصفين في جوالين. من خلال فحص المالبس وآثار الجروح والبقع الدقيقة، تمكنت من إعادة بناء سيناريو الجريمة وكشف أن القاتل هو جون كاي الذي قتل عشيقته إيما بعد شجار وحاول إخفاء الجثة في البئر ثم ألقى النصفين في البحر. شاركت أيضاً في التحقيق في الجرائم السياسية التي استهدفت البريطانيين والمصريين. في قضية اغتيال السردار، كانت تحاليل الرصاص وفوارغه في معملي حاسمة. استطعت تحديد نوع الأسلحة المستخدمة، واكتشفت أن بعض الذخيرة الحكومية البريطانية كانت مصنوعة من لب الورق. أدلتي المعملية، مع الاعترافات، ساعدت في إدانة القتلة. عملي شمل أيضاً التعرف على هوية الجثث. من خلال فحص العظام، يمكن تحديد الجنس والعرق والعمر والطول. في إحدى القضايا، عثر على هيكل عظمي في بئر، ومن خلال ثقب في الجمجمة، استنتجت أن القتل تم بطلقة رصاص من أعلى وأن الجسد ألقي في البئر. كما استطعت التعرف على تشوه خلقي في جمجمة أخرى. لم يكن عملي يخلو من مواجهة الفساد أو الأخطاء القضائية، أو حتى الخرافات. واجهت حالات تزييف الأدلة، وقضايا معقدة مثل مقتل فلاح تم تزييف موته كانتحار، وكشفت أدلة الألياف والحشائش على ملابسه أنه جُر على الأرض بعد إصابته، مما أدى لإدانة زوجته وعامل لديه. بعد أحد عشر عاماً، رغم الراتب المغري وتقدير الحكومة المصرية، عدت إلى إدنبرج. لم أجد تنوع القضايا في بريطانيا، لكنني خضت تجربة جديدة كشاهد دفاع في قضايا بارزة. أشهرها كانت قضية سيدني فوكس، المتهم بقتل والدته بالخنق. واجهت السير برنارد سبلسبري في المحكمة. كانت معركتنا حول سبب الوفاة. دحضت نظرية الخنق بأدلة تشريحية، ورأيت أن الوفاة غالباً كانت بسبب هبوط في القلب نتيجة الصدمة والخوف من حريق. في قضية آني هيرن المتهمة بتسميم سيدتين بالزرنيخ، شككت في تشخيص التسمم في إحدى الحالات بناءً على الأعراض، وفي النهاية تلقيت رسالة شكر من آني بعد تبرئتها. أظهرت قضية مقتل الطفلة هيلين بريستلي في أبردين أهمية الأدلة الدقيقة. من خلال تحليل الرماد والألياف والأوبار الموجودة في الجوال الذي عثر فيه على الجثة، ومقارنتها بعينات من شقة السيدة دونالد، توصلت إلى تطابق مذهل أدى إلى إدانة السيدة دونالد بالقتل. الجروح في جسد الطفلة ربما كانت محاولة لتضليل الشرطة. تعاملت مع قضايا غريبة مثل قضية القرش في سيدني حيث عُثر على ذراع بشرية موشومة في معدة قرش، وقضية ركستون. تطورت تقنياتنا في المعمل. في قضايا سرقة الخزائن، ساعدت تحليل البقايا الكيميائية والألياف في ربط الجناة بالجرائم. كما تطورت تقنيات تحديد هوية الأشخاص من آثار أقدامهم داخل الأحذية، مما مكننا من تحديد خصائص جسدية كاختلاف طول الساقين والعرج. في الحرب العالمية الثانية، فحصت أنواعاً مختلفة من الذخائر العسكرية واختبرت فعاليتها. رأيت أيضاً فظائع التجارب اللاإنسانية في المعتقلات النازية. في سيالان، شاركت في قضية قتل، حيث استخدمت الأدلة المادية مثل الكدمات وموقع القرط المفقود لدحض رواية الشهود وتحديد مسرح الجريمة الحقيقي. الطب الشرعي ليس علماً ثابتاً، ويحتاج للتعاون مع تخصصات أخرى. دورنا هو تزويد الشرطة بالمعلومات بناءً على معرفتنا المتخصصة. هذه التجارب، من مصر إلى بريطانيا وسيلان، شكلت رحلتي كخبير في الطب الشرعي، قارئاً للأسرار التي تخبئها الجثث والأدلة الصامتة.