الكتاب ده مش قصة عن ساعي البريد نفسه، لكنه قصة الرسايل اللي كانت معاه. كأن الرسايل دي سقطت منه أو هو مرّ وماشافهاش عشان أصحابها "كانوا غير مرئيين"، أو بدت باهتة في إيده. الرسايل دي بتحكي قصص ناس كتير أوي، كأنها نبض الحياة نفسه بكل تفاصيله. فيه رسايل من جندي في الجبهة بيكلم أمه وبيطمنها وبيوعدها بالرجوع ومعاه هدايا بسيطة زي العسلية والحمصية. وفيه رسايل من أب بيكلم ابنه وبيحكيله عن القاهرة اللي جمالها "خفي" زي الستات اللي "يأسرن الرجال" وبيوصيه يرجع الصعيد ويكبر ويعيش ويموت فيها وميعملش غلطة أبوه اللي شايف إن شغلته "ملمع جزم" في القاهرة مافيهاش عز. الرسايل بتنقل مشاعر مختلفة، زي شوق بنت خالة لابن خالتها الجندي وغيابه اللي "نازع البركة" من القرية، وشوق زوجة لزوجها اللي متأخر في السفر وشايفة إنه في "القاهرة القادرة" ممكن يشوف "بنات بيضا" وتنقلها كلام الناس عنه وهو بيتأخر. وفيه رسايل من الأولاد لجدتهم وجدهم وهما في الحج، بيسألوهم عن النبي والكعبة وعرفة وزمزم، وبيحكولهم إنهم دهنوا واجهة البيت عشان تناسب "طلتكم البهية". لكن فيه رسايل تانية بتيجي من قلب المآسي، كأنها رسايل "حين لم يصل الساعي". فيه رسايل من نفس الجندي لأمه لكن "من قلب الحرب وتحت القصف" والوضع بقى "أصعب مما ظننا" والعدو أقرب، وبيقول إنه ثابت في مكانه ولن يعود خطوة واحدة إلا لما "اﻷرض تعود دفعة واحدة". فيه رسايل من أب لابنه ومراته بيكتبها من قطر الصعيد، بيعتذر لابنه على غيابه وحضوره الناقص وبيقول لمراته "آسف إني هتأخر" لكنه لأول مرة في حياته "لحق قطر" ويا ليته ما لحقه، وبينصحها تدور تحت المرتبة هتلاقي مبلغ مدخره، وبيوصيها بالولد والبيت وحبه ليها. ورسالة من أم لأولادها بتكتبها من عبارة "السلام 98" وهي بتغرق في نص الليل، مش عارفة إيه اللي بيحصل ولا عارفة الرسالة هتوصل ولا لأ، لكنها بتكتب لهم لعلها سلوى، وبتطلب منهم يدعولها لو سمعوا بأي سوء. كمان فيه قصص مآسي حصلت في تواريخ محددة اتحولت لذكريات مؤلمة: في 5 يونيو 1967 "قتل العيال وضاعت الأرض". في 20 فبراير 2002 "احترق قطار الصعيد وتفحم الركاب". في 3 فبراير 2006 "غرقت عبارة السلام 98 وابتلع البحر المسافرين" (وقتها مصر فازت بأمم أفريقيا في تناقض صارخ). في 1 فبراير 2012 حصلت خسارة للمصريين في بورسعيد (إشارة لأحداث استاد بورسعيد). وفي 8 فبراير 2015 "انقلبت الآية وكان الحشر قبل الموت" والأولاد "حشروا في الممر فماتوا بسهولة" (إشارة لأحداث استاد الدفاع الجوي). الرسايل دي بتقول إن الأوراق اللي رماها الساعي مكنتش فاضية، لكنها بدت شفافة لأنها مكتوبة "بالعرق". بتحكي عن ناس حياتها صعبة ومكافحة ومش بيبص عليهم حد، زي الشاب اللي بطنه بتوجعه من الجوع والمطاعم مفتوحة لكن معندوش فلوس يدفع إيجار أو قسط، والست اللي بتبيع كرنب في السوق بعد ما جوزها مات فجأة عشان تاكل بناتها التلاتة، وبتحكي إنها مبتعملش محشي في بيتها غير مرة واحدة في الشهر عشان "عيونهم تكون ممتلئة" بالفلوس مش بالأكل. وفيه رسايل من الشّيال اللي شايل هموم فوق طاقته، وجسمه متهالك، وأصحابه ماتوا من الشغلانة دي، وبيحكي عن الشيخ اللي اتقال عشان ظهره استعدل فمات، وعن نفسه اللي عايز يستقيم عشان يشوف السما. والست اللي بتشتغل منظفة بيوت وبتعمل كل مكان قصر إلا بيتها، وحست إن صوابعها استقالت من كتر ما حولت الحاجة القذرة لحاجة بتلمع. والمدرس اللي حاسس إن كلمته مثيرة للشفقة وبيتعامل كأيقونة للضحك مع إنه وسيلة الناس عشان يطلعوا من الطبقة الكادحة وهو نفسه منها. فيه رسايل تانية الساعي مشافهاش خالص، يمكن عشان أصحابها "كانوا غير مرئيين". زي رسايل من الست اللي "مطلقة" أو "أرملة" وحاسة إن الناس بتشوفها "غول" وبتحكم عليها، وإنها بس عايزة الناس "تكف عنها يديها" وتبص لها "على السواء" بدون حكم. ومن الشاب اللي بيبيع ورد في الشارع، بيترجى الناس تحترمه وتبتسم في وشه حتى لو مش هيشتروا ورد، لأن الشارع بيته بالإجبار. ومن "عم شريف" ماسح الجزم اللي بقى له خمسين سنة في الشارع، وبيحكي عن الزمن اللي الناس كانت بتقلع فيه الجزمة عشان تتمعس، دلوقتي الناس يا دوب بتمد رجلها وهو غارق في سواد الورنيش، وبيترجى الناس تسلم عليه بإيديها مش برجلها. ومن الخردجي اللي بيجر عربية وروبابيكيا، وحاسس إن الحاجة المستعملة بتتمنى تركب عربيته، وحاسس إنه رغم تعبه وجسمه المحني، لكنه "أديب" و"حكيم" أكتر من الناس اللي متعرفش هو بيجر إيه وراه. ومن عامل النظافة "الشبح البرتقالي" اللي بينظف الشارع وبيحس إنه لو فاض عنده نص ساعة هيطلع ينضف السما ويسد ثقب الأوزون، وبيكشف سر خطير وهو إنه "أيضًا... إنسان" وبيترجى اللي يقرأ رسالته يحرقها عشان ميتعدمش. بعض الرسايل دي اتقالت كأنها مكتوبة "بالرصاص؛ لأن مرسليها يخافون من أي شيء جاف". زي رسالة من شخص مقتول لقاتله، بيتساءل فيها إذا كان بص في عينه قبل ما يضرب النار، وبيقول إنه لو حط نفسه مكان القاتل مش هيقدر يقتل، وإن القاتل قتل مش شخص واحد لكن "ألف قلب معاه" و"الأبد" كله. فيه رسايل تانية بتحكي قصة شخص واحد، يمكن بتبدأ "في مطار القاهرة الدولي.. صالة المغادرين". بيحكي عن تعبه ومحاولاته عشان يسافر، وإزاي بيودع أهله وأحلامه معاه في الشنطة، وريح أمه وأكله في نفسه. بيحكي عن أول شهر في الغربة وإنه لسه بيحاول يتعود ياكل لوحده مع إنه شايف إن الأكل للمشاركة مش للفرد. وبعد 3 شهور بيحس بالملل والوحدة أكتر، وبيلاقي زملاءه بيتهربوا منه، وبيكتشف إنه بقى يتمشى لوحده بالليل، وحس إن الوحدة دي "نعمة عظيمة اسمها الوحدة" اللي بتخليه "مثقف وعميق" زي البهوات، لكنه وحش البلد وأهله والمصطبة. بعد 7 شهور بيتعب ومحدش بيسأل عنه ولا بيزوره، وبيروح المستشفى لوحده، وبيحس قد إيه الغربة "قاسية". بعد سنة بيحس إن الزمن بيجري أسرع، وإنه عرف ربنا ونفسه والغربة أكتر، لكنه لسه واقف مكانه وأهله كبروا. بعد سنتين الشوق بيكويه ومش عايز حاجة غير يشوف أحبابه. بيحجز تذكرة عشان أمه تعبت. لكن بيحصل اللي مكنش في باله، بيموت أمه في نفس اليوم اللي كان راجع فيه، بيكتب رسالة كلها وجع وبيسألها ليه ماتت قبل ما يوصل بيوم واحد؟. بعد ست سنين لسه في الغربة، حاسس إنه "عالق في المنتصف" لا اللي هناك قادر يموت ولا اللي هنا قادر يعيش، ومش عارف يرجع لمين ولا هداياه لمين بعد ما أمه ماتت، وحاسس إنه خسر أهله وأحبابه عشان يجيب لهم العز. القصة دي بتنتهي بـ "مطار القاهرة الدولي.. صالة القادمين" الساعة واحدة الظهر، كإشارة لوصوله يمكن، لكن بعد فوات الأوان. فيه قصص تانية بتوصف الواقع اليومي المؤلم والإرهاق النفسي. زي اللي مش قادر ينام من التفكير وتعب اليوم، وجسمه رافض الراحة، وبيحاول يشرب شاي بالليل عشان يعزيه. واللي يومه كان سيء وحاسس بالغثيان والوحدة، ومحدش سأله ماله، والناس بتشوف إرهاقه بس متعرضش عليه راحة. واللي حس بفرحة لما صديق قال له "أنا بجانبك" لدرجة إن الكلمة دي شقت أذنه وسكنت قلبه، وخلته يفهم قد إيه الكلام البسيط مهم في عز الوحدة** . واللي بيبكي من تراكمات قديمة وحاسس إن دموعه هي رزقه من الأولاد . واللي حس إنه "وصل" لما مضى عقد عمل ثابت وهيخليه ياكل ويشبع ويدلع نفسه بعد تقشف طويل ، لكنه لسه حاسس بالغربة وإنه مختلف عن زمايله اللي بيتفاخروا بأنسابهم . واللي بيكلم أبوه المتوفي ويقول له إنه كبر وشبهه وإنه عرف إن السعي أهم من الوصول، وإن أبوه مات قبل ما يمتلك حاجة لكن ربنا ادخره . واللي بيكلم أوضته وحاسس إنه وحيد ومش طايق الوحدة مع إنه بيخاف من الناس، وعايز حد يكون جنبه . واللي بيستغرب الزمن عدى إزاي بسرعة وحاسس إنه كبر وانحنى ظهره زي جدوده . وأخيرًا اللي بيكلم أمه اللي ماتت وبيحكي لها إن حد بيخبط على بابه، وهو شاكك إنه مبعوث منها بعد ما كانت بتوصيه ميفتحش لأي غريب، وبيقول لها إنه رتب البيت وعلق صورهم، ومستني ردها عشان يفتح للطارق اللي ممكن يكون ملك الموت . في النهاية، فيه رسايل اتحطت في الصندوق بعد ما الساعي مرّ ومكتب البريد قفل . رسايل لـ أب مات في الغربة ، صديق اتأخر في الاعتذار له ، صديقة رحلت قبل ما يقول لها بحبه ، صديق انتحر عشان مالقاش حضن يدعوه للحياة ، ورسالة "إلى أنا" ... كل الرسايل دي ردها كان واحد: "عذراً.. الشخص الذي تحاول الإرسال إليه غير موجود" . وكأن ساعي البريد ساب رسالة أخيرة بتقول: "عمر الكلام الجاف.. ما يبل ريق عطشان" . وفي آخر الكتاب، المؤلف بيكلم القارئ وبيقول له إن دي آخر صفحة في رسالته، لكنها أول صفحة في رسالة القارئ الورقية اللي لازم يبعتها قبل ما "يفوتك ساعي البريد" .