في قديم الزمان، في بلاد الهند، ملك عظيم يدعى بهيشما. كبر الملك بهيشما وشاخ، وبدأ يشعر بضعف قواه، فأراد أن يرى أحفاده أقوياء ومتحدين، يدافعون عن الوطن ضد الغزاة والمعتدين. كان للملك حفيدان هما "درسترتا" (الأعمى) و"بندو". ورغم أن "درسترتا" كان الأكبر، إلا أنه كان أعمى ولم يتمكن من مساعدة والده، بينما "بندو" كان شجاعًا ومقدامًا، لكنه توفي في ريعان شبابه. وترك "درسترتا" ولدًا يدعى دريودهانا، وكان كبير أسرة "الرضيّ". أما "بندو" فترك خمسة أبناء، منهم أرجونا، وكان أوسط إخوته وأوفرهم فضلًا. أخبرنا الرواة أن قصة الأخوين بدأت حين كبر أبناء "الرضيّ" وأبناء "الشِّيد" (أبناء بندو)، وعقدت لهم مجالس الرجال. كان الملك "بهيشما" قلقًا بشأن تعليم أحفاده، فرأى "دريودهانا" وابن عمه "يدشت-هريا" (كبير أسرة "الشيد") متخلفين عن أترابهم في التدرب على الرماية وفنون الحرب. سعى الملك "بهيشما" طويلًا للعثور على معلم جيد يعهد إليه بتعليم أحفاده. ذات يوم، بينما كان الأمراء يلعبون بالقرب من بئر، سقطت كرة ثمينة لأحدهم في الماء. حاول الأمراء استردادها بالعصي والحجارة لكنهم فشلوا، فتملكهم اليأس. حينها، رأوا ناسكًا ذكيًا يدعى دُرُونا يجلس بالقرب منهم. توجه إليه "أرجونا" يطلب المساعدة، فابتسم الناسك ثم غضب عندما رأى عجز الأمراء عن استخراج الكرة. أخرج "دُرُونا" خاتمًا من الياقوت من إصبعه وألقاه في البئر حيث استقرت الكرة. ثم التقط قبضة من الحشائش، ووضع سهمًا في قوسه، وصوبه نحو الكرة، فدخل السهم فيها، ثم سدد سهمًا آخر فنفذ في نهاية السهم الأول، وهكذا حتى تكونت عصا طويلة وصلت يده، فأمسك بها واستخرج الكرة والخاتم معًا. اندهش الأمراء من براعة "دُرُونا". عندما سُئل "دُرُونا" ماذا يمكنهم أن يقدموا له جزاءً لبراعته، أخبرهم أن يخبروا جدهم "بهيشما" بقدومه. اندفع الأمراء الصبية إلى جدهم ليقصوا عليه قصة "دُرُونا". وعندما سمع "بهيشما" اسم "دُرُونا"، صاح متعجبًا ومرحّبًا به. التقى "دُرُونا" بالملك "بهيشما" وكشف له قصته: لقد قضى أيام شبابه في تعلم فنون الرماية مع أمراء آخرين، وكان الأمير "دُرُوبَادا" (ملك البنغال لاحقًا) أقرب أصدقائه. تعاهدا على الوفاء والمساعدة. لكن بعد أن أصبح "دُرُوباَدا" ملكًا، اعتزل "دُرُونا" الحياة في الغابة وعاش ناسكًا. وحين رزق بأبناء، فكر في العودة إلى المدينة، وقصد "دُرُوباَدا" ليطلب منه المال والكساء، لكن "دُرُوباَدا" استقبله بالسخرية والمهانة، وزعم أن جلال الملك لا يتفق مع حقارة الفقر. امتلأت نفس "دُرُونا" احتقارًا، وأقسم على تأديب "دُرُوباَدا" وإذلاله. أخبر "دُرُونا" الملك "بهيشما" أنه كرس حياته لتدريب الطلاب على الرماية لتحقيق هذا الهدف. فرح الملك "بهيشما" بقدوم "دُرُونا" واعتبره عناية إلهية لتدريب أحفاده. وافق "دُرُونا" على تعليم الأمراء، وطلب منهم عهدًا وميثاقًا بأن يحققوا له مطلبه. دب الهلع في نفوس الأمراء، لكن "أرجونا" وحده تقدم وأعلن استعداده لتحقيق رغبة أستاذه. أحبه "دُرُونا" وأخذ يتعهده بكل ما أوتي من خبرة ودربة. تعلم "أرجونا" فنون الحرب والرماية وبرع فيها. ذات ليلة، بينما كان "أرجونا" يتناول طعامه في الظلام، لاحظ أنه يمكنه حمل الطعام إلى فمه بسهولة دون مساعدة عينيه. فجالت بخاطره فكرة: لماذا لا يمكنه شد القوس ورمي السهم ليصيب الهدف دون الحاجة إلى العين؟. وهكذا، بدأ "أرجونا" يتدرب على الرماية بالصوت في الظلام، مستعينًا بتغريد الطيور العالية. أدرك "دُرُونا" ما جال بخاطر تلميذه، وهنأه، وقال له: "اسم أرجونا وشيك أن يدوّي في الآفاق ويصبح أعظم من رمى بالسهام!". كان الأمير دريودهانا قريبًا منهما، فاستولى عليه الحسد والغيظ. كان "دريودهانا" يدرك أن "أرجونا" يفوقه في فنون الرماية. دخل طالب جديد يدعى كارنا، وكان بارعًا، ولكن مجهول الأبوين. رأى "دريودهانا" فرصة للكيد لـ"أرجونا"، فتقرب من "كارنا" وأغدق عليه المال والهدايا. بعد ثلاث سنوات، رأى "دُرُونا" أن طلابه قد اكتملت مواهبهم، فذهب إلى "بهيشما" وطلب منه الإذن بخوض المعركة ضد ملك البنغال "دُرُوبَادا". انطلقت حماسة الأمراء، وجهزوا جيوشهم. دخلوا عاصمة البنغال متحايلين على الحراس. كان أبناء "الرضيّ" (بقيادة "دريودهانا" و"كارنا") في مقدمة الجيش المغار، لكنهم لم يتمتعوا بالنظام والتدبر، فانهزموا وفروا. لكن أرجونا رأى الخلل في جيش أبناء عمه، فتروى وانتظر. ثم تحرك جيش "أرجونا" بثبات وقوة ومهارة، يتقدمهم "أرجونا" وشقيقاه التوأمان. اندفع الجيش خلف قائدهم العظيم، "أرجونا"، الذي كان يرمي بخمسين سهمًا في كل طلقة، تصمي الأعداء، فاستولى الرعب عليهم وفروا. اندفع ملك البنغال "دُرُوباَدا" نحو "أرجونا" بسيفه، لكن "أرجونا" انقض عليه وخطف سيفه وقال له: "حياتك وموتك مرهونان بمشيئة دُرُونا". عندما سمع "دُرُوباَدا" اسم "دُرُونا"، تذكر صديقه القديم الذي تنكر له. اعتذر "دُرُوباَدا" من "دُرُونا"، فابتدره "دُرُونا" قائلًا: "اهدأ يا دُرُوباَدا، فقد رأيت أن ملكًا مثلك لا يرتضي صداقة فقير مثلي". ثم أعلن "دُرُونا" قراره: أن يكون "دُرُوباَدا" ملكًا على نصف المملكة (الجنوبي)، و"دُرُونا" ملكًا على النصف الآخر (الشمالي). وهكذا، أصبحا ملكين متكافئين، وتحققت عدالة "دُرُونا". عاد الأمراء منتصرين إلى "هسناپورا"، وفرح بهم أهلهم. لكن "دريودهانا" لم يطق ذلك، فألّب أباه "الرضيّ" على أبناء عمه "الشيد"، واتفقا على خطة ماكرة للقضاء عليهم. نشروا خبرًا عن مهرجان كبير في مدينة "بنارس" ودعوا أبناء "الشيد" لحضوره. بنى لهم "پاروشانا" (وزير دريودهانا) قصرًا فخمًا من الخشب سريع الاشتعال، مليئًا بالراتنج والزيت والقطران. قبل المهرجان، جاء رسول من خال أبناء "الشيد"، "فيدورا"، وأخبرهم بخطة "دريودهانا" للقضاء عليهم، وأرشدهم إلى حفر نفق سري تحت القصر يوصلهم إلى الغابة. وافق أبناء "الشيد" على اقتراح "أرجونا" بحرق القصر بأنفسهم بعد خروجهم من النفق. وبالفعل، أرسلوا من في القصر إلى الأسواق، ثم أشعلوا النار فيه. خرجوا من النفق، ووصلوا إلى ضفة النهر، فوجدوا سفينة حمراء تنتظرهم، وهي التي أرسلها خالهم "فيدورا". تنقل الأمراء من بلد إلى بلد متنكرين في زي النساك. وعلموا أن ملك البنغال "دُرُوباَدا" سيقيم مهرجانًا كبيرًا، حيث سيتنافس الرماة للفوز بابنته دُرُوبَادِي. كان الشرط هو رامي السهم الذي يستطيع ثني قوس كبير، وإطلاق خمسة سهام لا تخطئ الهدف، وهو خاتم معلق في الهواء. وشرط آخر أن يكون من دماء السيادة والإمارة. تقدم المتنافسون، وحاولوا ثني القوس، لكنهم عجزوا. ثم أعلن المنادي اسم "كارنا". صعد "كارنا" إلى المنصة، وأمسك بالقوس، فحاول ثنيها بجهد مضنٍ، وتصبب وجهه عرقًا. وأخيرًا، شد القوس ورمى سهامه الخمسة، فأصابت الهدف. قفز "دريودهانا" فرحًا، بينما تعالت صيحات الإعجاب بـ"كارنا". لكن الأميرة "دُرُوبَادِي" نهضت من كرسيها وسألت "دريودهانا" عن والد "كارنا"، وقالت: "هل تعلم أن أول شروط المباراة ألا يتزوجني إلا من يجري في عروقه دم الإمارة والنبل؟". وعندما علم "كارنا" أنه ابن حوذي، غض بصره وراح يهز رأسه. ثم تقدم أرجونا، متنكرًا في زي ناسك. أمسك بالقوس بيده، وشد وترها بالأخرى، فانحنت في يده. انطلقت سهامه الخمسة تباعًا، مسددة إلى هدفها بسرعة، فأصابته. استولى الدهشة والإعجاب على النظارة، وارتفعت هتافاتهم. ثم هنأته الأميرة "دُرُوبَادِي" وقالت له: "إن ما شهدناه من آيات مجدك وكمال مروءتك، لهو لدليل على أنك أصيل عريق في الإمارة". فرح الملك "دُرُوباَدا" به، واختار "أرجونا" زوجًا لابنته. تم الزواج، وعاد أبناء "الشيد" إلى "هسناپورا"، فأمر الملك "بهيشما" بتقسيم المملكة بين أبناء "الرضيّ" وأبناء "الشيد"، فأعطى أبناء "الشيد" النصف القاحل. عمل أبناء "الشيد" بجد وصبر على تحويل مملكتهم القاحلة إلى مدينة مزدهرة تسمى "اندربرشتا". أصبحت "اندربرشتا" من أغنى حواضر الهند. عاد "دريودهانا" لزيارتهم، فرأى عظمة ملكهم، وامتلأ قلبه بالغيظ والحنق. وفي القصر، دخل "دريودهانا" غرفة ظن أرضها ماءً، فرفع ثيابه كي لا تبتل قدماه، فضحك الساخرون، فأدرك خطأه. ثم سار في ردهة أخرى فاعترضه باب زجاجي شفاف، ظنه فراغًا، فاندفع ليجتازه فوقع. زاد هذا من حقده، وأعد خطة ماكرة للانتقام. عاد "دريودهانا" إلى عاصمة مملكته، ودعا أبناء عمه إلى حفلة، ثم تحداهم في لعبة النرد. لم يجد أبناء "الشيد" بدًا من التسليم والقبول. بدأت المباراة، فخسر أبناء "الشيد" كل شيء. وعندما سُئل "دريودهانا" هل بقي لـ"الرضيّ" شيء يراهن عليه، قال: "نعم، زوجتك دُرُوبَادِي". صاح "الرضيّ" هنا مستهزئًا: "لقد تم لي النصر عليكم، فأصبحت سيدًا لكم، وأموالكم وبلادكم وكنوزكم وأنفسكم صارت لي عبيدًا". وأمر بأن تصبح "دُرُوبَادِي" خادمة تنظف طريقه. لكن صوتًا نسويا تحدى "الرضيّ" قائلًا: "ذلك ما لا يكون! أيستطيع العبد أن يملك؟ أيستطيع العبد أن يهب؟". وتابعت "دُرُوبَادِي" قائلة: "إذا فقد العبد نفسه، فهل يصح أن يبيع زوجته؟". أقرت الحاضرون كلامها، وغضب "الرضيّ". لكنه لم يجرؤ على إنكار حق الأميرة. وخرج أبناء "الشيد" وزوجة أرجونا "دُرُوبَادِي" إلى المنفى لمدة اثني عشر عامًا. بعد ثلاثة عشر عامًا في المنفى (اثني عشر عامًا في المنفى وواحدًا في التخفي)، عاد أبناء "الشيد" محصنين جيوشهم. دعا "دريودهانا" "كارنا" لقيادة جيشه، لكن "كارنا" رفض قائلًا: "لن أحارب إلا أرجونا، ليس لي منافس غيره في هذه الحياة". وكشفت والدة "كارنا"، "كنتي" (وهي في الحقيقة أم أرجونا وإخوته أيضًا)، أنه ابنها، وأرجونا أخوه. ورغم توسلاتها، رفض "كارنا" نقض وعده لـ"دريودهانا" أو التخلي عن قتاله مع "أرجونا". وقبل المعركة، جاء "إندرا" (ملك النور) إلى "كارنا" متنكرًا في زي ناسك، وسأله أن يهبه درعه وحلقتي أذنيه، وهما مصدر قوته وحمايته. لم يكن "كارنا" يرد سائلًا. وقد كان "إندرا" يعلم أن "كارنا" لا يهزم إلا بنزع درعه وحلقتيه. منحه "كارنا" ما طلب، مقابل سهم يقتل من يلمسه. اندلعت المعركة الفاصلة بين الأخوين "أرجونا" و"كارنا". كان صراعًا عنيفًا لم تشهد الهند مثيلًا له. حاول "كارنا" استخدام سهمه المسحور ضد "أرجونا"، لكن عجلة مركبة "أرجونا" غاصت في الأرض، مما أنقذه. طلب "كارنا" من "إندرا" أن يرميه بالسهم مرة ثانية، لكن "إندرا" رفض، لأن السهم المسحور لا يستخدم إلا مرة واحدة. انتهز "أرجونا" الفرصة، وبينما "كارنا" منشغل، سدد إليه سهمًا قاتلًا. سقط "كارنا" صريعًا على الأرض، وصعدت روحه إلى السماء. بعد وفاة "كارنا"، دب الرعب في قلوب جيش "الرضيّ"، وفروا. وفاز أبناء "الشيد" بالنصر. وعند عودتهم، عرفوا من عمهم "درسترتا" وأمهم "كنتي" وخالهم "فيدورا" تفاصيل قصة "كارنا". وتجلى لـ"درسترتا" جزاء ما أسلفه من غدر وإساءة. ندم "درسترتا" على ما فعله، وقرر هو وزوجته "جنذاري" الذهاب إلى شاطئ نهر "كنج" للعبادة والتوبة. أما أبناء "الشيد"، فقد أقاموا العدل بين الناس، وعز سلطانهم، وكثر أنصارهم. عاشوا بين ملوك الهند موصوفين بالبطولة والمجد، وأصبحوا مضرب الأمثال في الشجاعة والتفوق.