حكايات من الكتب

سيكولوجية الجماهير


Listen Later

عصر جديد ونفسٌ متغيرة في زمنٍ بعيد، أو ربما ليس ببعيد جداً، وتحديداً في نهاية القرن التاسع عشر، حيث كانت رياح التغيير تهب بقوة على العالم، ظهرت ظاهرةٌ غريبة لم تكن البشرية قد اعتادت عليها. لم تعد القوى التقليدية وحدها هي المتحكمة، بل بزغ نجم كيانٍ جديدٍ مهيب، يمتلك قوةً هائلةً لم تكن معروفة من قبل: "الجماهير". لم تكن هذه الجماهير مجرد أفرادٍ متجمعين في مكان واحد؛ بل كانت أشبه بـ**"مركبٍ كيميائي"** جديد يتكون من عناصر مختلفة، تفقد خصائصها الأصلية وتكتسب خصائص جديدة تمامًا بمجرد اجتماعها. فالفرد العاقل الرشيد، الذي يتمتع بشخصيته المستقلة ووعيه الخاص، بمجرد انضمامه إلى "روح الجماهير"، يذوب في هذا الكيان الجماعي. يصبح وكأنه تحت تأثير "تنويم مغناطيسي"، حيث تتلاشى شخصيته الواعية، وتسيطر عليه الغرائز البدائية والميول اللاواعية. يفقد القدرة على التفكير النقدي، وتزداد انفعالاته وميوله العدوانية. يصبح كائناً يعيش بالغرائز. أصبحت هذه الجماهير ككائنٍ حيٍّ له طباعه الفريدة:
  • إنها مندفعة ومتقلبة للغاية، تتأثر بالمؤثرات الخارجية بسهولة وتغير اتجاهها بسرعة كبيرة.
  • عواطفها بسيطة ومبالغ فيها. لا تعرف التردد أو الشك، وتتحول مشاعرها بسرعة إلى أقصى حد.
  • تتميز بـ**"سرعة التأثر وقابلية التصديق المطلقة"**. إنها تصدق الأوهام والخرافات بسهولة، وتتلقف الإيحاءات كحقائق مطلقة، وتتجاهل المنطق والعقل.
  • لا تبالي بالحقائق أو البرهان.
  • يمكن أن ترتكب أعمالاً إجرامية قاسية دون أدنى شعور بالذنب، أو تقوم بـأعمال بطولية وتضحيات عظيمة.
في هذا العصر الجديد، أصبح فهم هذه الظاهرة حاسماً. فكيف يمكن توجيه هذه الجماهير الغامضة؟ هنا يبرز دور "المحركين" أو "القادة". القائد هو الذي يمتلك الهيبة، تلك القوة الغامضة التي تجعل الجماهير تخضع له طواعية وتعبده. يعتمد القادة في تأثيرهم على الجماهير على ثلاثة أساليب رئيسية:
  1. التأكيد: مجرد قول الفكرة بوضوح وقوة، دون أي دليل.
  2. التكرار: ترديد الفكرة مراراً وتكراراً حتى تتغلغل في أعماق اللاوعي للجماهير وتصبح حقيقة راسخة.
  3. العدوى: تنتقل الأفكار والعواطف بسرعة بين أفراد الجماهير، تماماً كـ"العدوى" البيولوجية.
كان نابليون بونابرت مثالاً ساطعاً للقائد الذي أتقن فن قيادة الجماهير، فامتلك هيبةً عظيمة وسحرهم، واستطاع تحريكهم نحو أهدافه. ولكن لم يكن كل شيء في الجماهير يتغير بالتحريك المباشر. فهناك عوامل أعمق، تُسمى "العوامل البعيدة"، مثل "روح العرق"، والتقاليد الراسخة، والزمن الذي يبني أو يهدم الأفكار. هذه العوامل تشكل "المعتقدات الثابتة" التي تُعد أساس الحضارات، وتتسم بالثبات الشديد والمقاومة للتغيير. لقد أدرك غوستاف لوبون، مؤلف هذا الكتاب، أن عصر الجماهير قد بدأ. وأن فهم نفسية هذه الجماهير، بطباعها الغريبة وسلوكها غير العقلاني، أصبح ضرورياً لكل من يريد التأثير فيها أو حتى فهم مجرى الأحداث في العالم الحديث. وعلى الرغم من أن أفكاره قوبلت ببعض النقد والجدل، إلا أن "سيكولوجية الجماهير" لا يزال كتاباً ذا أهمية كبيرة، وقد أثر في العديد من المفكرين والباحثين الذين أتوا من بعده. وهكذا، تبقى قصة الجماهير وقوتها، وقابليتها للتأثر والتحريك، جزءاً لا يتجزأ من فهم تاريخنا وحاضرنا.
...more
View all episodesView all episodes
Download on the App Store

حكايات من الكتبBy حكايات من الكتب