في الأروقةِ الهادئةِ لجامعةِ كامبريدج خلالَ ثلاثينياتِ القرنِ العشرين، التقى عقلانِ لامعانِ سعيًا وراءَ فكرةٍ ثوريةٍ منْ شأنِها أنْ تُعيدَ تشكيلَ مشهدِ الكيمياءِ التحليليةِ إلى الأبد.
"آرتشر جون بورتر مارتن"، وهوَ كيميائيٌّ شابٌّ وفضولي، وجدَ نفسَه يفكرُ في ألغازِ تقنياتِ الفصلِ في أثناءِ عملِه على كيمياءِ البنسلين. وبجانبِه، كانَ "ريتشارد لورانس ميلينجتون سينج" عالِمُ الكيمياءِ الحيويةِ الموهوبُ الذي يتمتعُ بفضولٍ لا يشبع، والذي كانَ وقتَها يستكشفُ طرقًا لكشفِ تعقيداتِ البروتينات.
تقاربتْ مساراتُهما الفردية، التي تبدو منفصلة، عندَما شرَعا في تعاونٍ لابتكارِ تقنيةٍ تُعرفُ الآنَ باسمِ كروماتوغرافيا التقسيم؛ أوِ التفريقِ اللوني.
كروماتوغرافيا التقسيمِ هيَ تقنيةُ فصلٍ تُستخدمُ في الكيمياءِ التحليليةِ لفصلِ الخليطِ وتحديدِ مكوناتِه بناءً على التقسيمِ التفاضُليِّ (أوِ التوزيع) بينَ مرحلتينِ غيرِ قابلتَينِ للامتزاج.
وتُمكِّنُ هذهِ التقنيةُ العلماءَ منْ تحديدِ المكوناتِ الفرديةِ داخلَ الخليطِ وقياسِها، مما يؤدي إلى تحسينِ فهمِ تكوينِ العينة. وهذا أمرٌ بالغُ الأهميةِ في مجالاتٍ مثلَ تحليلِ الطبِّ الشرعي، ومراقبةِ الجودة، والرصدِ البيئي.
وقدْ نجحَ التعاوُنُ بينَ "مارتن" و"سينج" في ابتكارِ تلكَ الطريقةِ بعدَ أبحاثٍ دامتْ لنحوِ ستِّ سنواتٍ كاملة، وبعدَ نحوِ عشرينَ عامًا على ابتكارِ طريقةِ الفصلِ هذه؛ حصلَ الثنائيُّ على جائزةِ نوبل الكيمياءِ لعامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ واثنينِ وخمسين.
لكنْ؛ كيفَ يُمكنُ أنْ يحصلَ عالِمانِ على تلكَ الجائزةِ لابتكارِ طريقةٍ لفصلِ المواد؟
تُركزُ الكيمياءُ إلى حدٍّ كبيرٍ على دراسةِ المنتجاتِ الطبيعية، التي يتمُّ الحصولُ عليها منَ الحيواناتِ أوِ النباتاتِ أوْ حتى البكتيريا والكائناتِ الحيةِ الدقيقةِ الأخرى.
وتحتوي المادةُ الأوليةُ المستخرجةُ منْ تلكَ الكائناتِ على عددٍ كبيرٍ منَ الموادِ المتنوعةِ على نطاقٍ واسع، بعضُها بسيطٌ والبعضُ الآخرُ أكثرُ تعقيدًا.
وأولُ ما يجبُ على الكيميائيِّ فعلُه هوَ عزلُ الموادِّ التي يهتمُّ بها عنِ المادةِ المرادِ تحضيرِها في صورةٍ نقية. والخطوةُ التاليةُ، إنْ أمكنَ، هيَ تحديدُ هذهِ الموادِّ ومعرفةُ مما تتكونُ وكيفيةِ تركيبِها منْ مكوناتٍ بسيطة.
حلُّ المشكلةِ الأولى، عزلِ المكونات، يمكنُ أنْ تكونَ صعبةً فعلًا، فمسألةُ استخراجِ موادَّ في حالةٍ نقيةٍ لا تمثلُ سوى جزءٍ صغيرٍ جدًّا منَ المادةِ الأولية.
لذا؛ حظيتْ طريقةُ مارتن وسينج بنجاحٍ كبير، خاصةً فيما قدْ يكونُ أهمَّ أشكالِها، والذي يسمى كروماتوغرافيا ورقِ الترشيح.
تخيلْ أنَّ لديكَ قلمَ تحديدٍ ملونًا ووضعتَ نقطةً منْ حبرِه على قطعةٍ منَ الورقِ الخاصِّ يُسمى ورقَ الترشيح. نقطةُ الحبرِ هذهِ تُشبهُ الخليطَ الذي تريدُ فصلَه. الآنَ، اغمسِ الجزءَ السفليَّ منَ الورقةِ في الماءِ واتركِ الماءَ ينتقلُ إلى أعلى الورقة. وعندما يتحركُ الماءُ إلى الأعلى فإنَّه يحملُ معَه الحبر.
لكنَّ الحبرَ ليسَ مجردَ لونٍ واحد؛ فهوَ مكوَّنٌ منْ ألوانٍ مختلفةٍ ممزوجةٍ معًا. في أثناءِ تحرُّكِ الماء، قدْ ترى الحبرَ ينتشرُ أعلى ورقةِ الترشيحِ على شكلِ قوسِ قزحٍ منَ الألوان، إذْ تتحركُ بعضُ الألوانِ بشكلٍ أسرعَ منْ غيرِها. يحدثُ هذا لأنَّ كلَّ لونٍ في الحبرِ له "تقارُبٌ" مختلفٌ للمياهِ والورق. بعضُ الألوانِ تحبُّ أنْ تلتصقَ أكثرَ بالورق، لذا فهيَ تتحركُ بشكلٍ أبطأ. الألوانُ الأخرى تحبُّ الالتصاقَ معَ الماء، لذا فهيَ تتحركُ بشكلٍ أسرع.
بحلولِ الوقتِ الذي يصلُ فيه الماءُ إلى أعلى الورقة، قدْ ترى أنَّ الألوانَ المختلفةَ انتشرتْ وشكلتْ بقعًا أوْ أشرطةً منفصلة. توضحُ لكَ هذهِ الأشرطةُ الألوانَ الموجودةَ في خليطِ الحبر. يبدو الأمرُ كما لوْ أنكَ قمتَ بفرزِ ألوانِ الحبرِ إلى مجموعاتٍ مختلفة.
هذهِ بالضبطِ هيَ الطريقةُ التي ابتكرَها الثنائيُّ "مارتن" و"سينج" بنجاح. وهيَ طريقةٌ سهلةٌ للغاية؛ يمكنُ للمرءِ استخدامُها لإجراءِ تحليلٍ كاملٍ حتى للمخاليطِ الأكثرِ تعقيدًا؛ وقطرةٌ واحدةٌ منَ المادةِ الأوليةِ تكفي تمامًا لهذا الغرض.
Hosted on Acast. See acast.com/privacy for more information.