لكل شيء بدایة، وسنّة الحیاة أن یكون له نهایة، إلا الأحلام العظیمة لها بدایة ولكنك لا ترى نهایتها، لأنها تكون أبقى منك إذا أخلصتَ لها، وتعمِّر عمراً أطول منك إذا أعطیتها كلك. لحظاتُ البدایة هي دائماً لحظات لا تُنسى. تبقى تفاصیلها في ذاكرتك، وتبقى أحاسیسها عالقةً بروحك، وتبقى لذّتها ونشوتها وحماستها جزءاً من تكوینك إلى الأبد.

لم یواجه والدي صعوبةً في التعامل مع البریطانیین الذین یجیئون إلى مجلسه سواء كانوا من العسكریین أو التجار؛ إذ كان یقابلهم بابتسامة لطیفة تفیض تعابیرها من عینیه. كان الأمر ذاته مع الأمریكیین من دبلوماسیین أو مستثمرین، والذین كان یخبرهم بقصّة أو یروي طرفةً. ومع ذلك، فقد كانت كل تلك الجلسات المطوّلة في المجلس تتمّ بوجود مترجم، بینما

ینثر والدي بضع كلمات إنجلیزیة هنا وهناك خلال حدیثه.

شعرتُ بیدٍ تهزّ كتفي بلطفٍ وأنا أغطُّ في النوم. لم أجهد نفسي في معرفة من أیقظني، وظننتُ في بادئ الأمر أن هذا یحدث لي في عالم الأحلام. “محمد، محمد استیقظ، هذا أنا مكتوم”. رجع إلى الوراء لأنه یعلم أن ردّ فعلي الأول سیكون النهوض من الفراش بسرعة استعداداً للقتال.

طلب مني والدي أن أضیف مهارةً جدیدة إلى مهاراتي، وخبرةً مختلفةً إلى خبراتي، وجانباً آخر من الحیاة لم أعتد النظر إلیه؛ مهارة التعامل مع البحر والمشاركة في رحلات الغوص. كنت قد اعتدتُ السباحة في میاه البحر الضحلة مع الأصدقاء. ما أذكره أنّ للبحر رائحةً وصوتاً.

شكلت رحلتي الأولى إلى لندن في صیف عام 1959 مع والدي محطةً فارقةً في طفولتي. أحببتُ لندن قبل الوصول إلیها. وصفتها لي والدتي عندما أخبرتني عن الخضرة الممتدة على مدّ البصر، والأشجار التي تملأ الشوارع. أخبرتني بأننا سننام في مبنى شاهق، لأن الجوَّ هناك یناسبه النوم في الداخل ولیس كما نفعل في دبي عندما ننام على السطح.

كما الخیل الأولى، یكون السباق الأول؛ مناسبة یستحیل أن أنساها ما حییت، ولحظات إثارة وترقُّب ما زلتُ أشعر بها كلما تذكرتُها. إنها اللحظات الأولى دائماً؛ تبقى معنا، لا تذهب، الخیل الأولى، السباق الأول، الحبّ الأول. هي لحظاتٌ تبقى محفورةً للأبد.

هل تعرف ما هو الفرق بین الحبّ الأول والخیل الأولى؟ لا یوجد فرق. الخیل الأولى والحبّ الأول وجهان لعملة واحدة بالنسبة لي. أحبُّ الخیل منذ الصغر. تربیتُ في بیت كان والدي یجول بحصانه الصقلاوي في أرجاء دبي، ویقوده من غیر زمام.

یمیلُ الكثیر من الرجال إلى أن یكون لدیهم “كهف” خاص بهم، یلجؤون إلیه، بحیث یسعون من خلاله إلى ممارسة هوایاتهم، أو الابتعاد عن ضجیج البیت، أو الاسترخاء بعد عناء یوم طویل. نمت هذه الرغبة في أن یكون لدي كهفي الخاص عندما كنتُ صغیراً.

بدأ الشیخ راشد حكمه بطاقة كبیرة وحماسة عالیة وروح متَّقدة. كل یوم في حكم راشد كان مدرسةً بالنسبة لي. في كل یوم فكرة، ومشروع، وحكمة.

دروس راشد بن سعید لا تنتهي. كان مدرسة، وكان معلِّماً، وكان حاكماً، وكان أباً للجمیع. یبدأ یومه مع صلاة الفجر، ومنه تعلمتُ هذا الدرس، وما زال استیقاظي حتى الیوم یبدأ مع صلاة الفجر.