يشرح نيتشه في كتابه "الفجر" مصطلح الاستلاب الذاتي، وكيف أنَّ الفرد الإنساني يقع ضحية جملة مِن المفاهيم المتناقضة، تلك التي اخترعت لتنعم النفس بالهدوء، وإذا بها تُوظَّفُ بشكل يجعلها تقمع كلَّ هدوء يصيب الإنسان؛ فعلا! يرى ماركيز بأنَّ هناك ما يقلب المفاهيم لأجل تعاسة الإنسان، لأجل الاستمتاع بتنغيص أيَّام الآخرين تحت شعارات كثيرة تجتمع في رؤيا واحدة وهي: إظهار الذكاء.
هناك ما يسميه ماركيز بالثقافة الضحلة (the dirty culture)، هي طريقة في التقليد البائس، لأنَّها تجعل المنتمي إليها يقوم بكافة المنكرات في حقِّ ذاته وغيره مِن أجل الظهور بثوب العالِم الجليل أو الداهية الفذ، وهي طريقة من طرائق كثيرة، تدمِّر الأقربين إلى هذا الجبان، قبل أن تدمِّر ذاته المسلوبة منه منذ البداية.
الجلوس إلى جماعة ورمي الرموز كما بعثرة الأفكار الموجَّهة قبليا، والايحاء قبل دفع بعض الأغبياء إلى مهاجمة أهدافي دون أن أظهر أنا كمنافس أو أبقى مختفيا في الظلام، فهذا لا يسميه ماركيز ذكاء، بل هي خساسة، ترفع من منسوب البؤس في الأنفس، ولا تجعل صاحبها في موقف القوَّة، بل يضعه في خانة المساكين.
متعة ماركيز عندما يجالس غبيا يدَّعي الدهاء، هذا الادِّعاء يجعل صاحبه يكشف عن كل ما كان يخفيه تحت ستار "المحبة" ليظهر كلَّ فضلاته بشكل كامل، وهي طريقة تجعل ماركيز يتأكَّد كلَّ مرَّة مِن أنَّه يصارع قراصنة مِن أبشع ما أوجدته الحياة على الإطلاق، لأنَّ منسوب البؤس عالي جدا لديْهم للأسف.
ماركيز أيُّها الغريب بين "أهله" وناسه، هؤلاء البؤساء الذين أوغلوا في بؤسهم حتى اعتقدوا بأنَّ الحياة لم تنجب المَرَح والفرح إلاَّ على طريقتهم البائسة/اليائسة، لقد صارت الحياة لديْهم محصورة في تلك التصوُّرات المسوَّسة التي ورثوها عن الجهلة الذين سبقوهم، وها هم يتمسكون بها حتى آخر لحظاتهم في هذه الحياة.
الضياع مصير كئيب، والغباء أشدُّ النتائج عجرفة، بينما حالة الجهل بالغباء أمر يجعل صاحبه في حُكم المنفى الطوعي، أين تنتهي الحياة إلى صندوق مظلم ومغلق بإحكام، الأمر في غاية الخطورة، ففي الوقت التي تصدر الكثير من الدراسات التي تفسِّر وتشرح الجهل المركَّب، فإنَّ الغباء المركَّب لا أِحد ينتبه إليه، ذلك الذي يسميه ماركيز بالثقافة الضحلة.
قد يسأل سائل: ما معنى الثقافة الضحلة؟
هذا النوع من الثقافة هي مجموعة مِن الثوابت التي تأخذ صيغة اليقين، يرثها الفرد مِن الذين سبقوه، لكنها لا تملك أداة تحريك الأفكار، بل هي تهاجم كلَّ مَن يجرؤ على التفكير، وبهذه الطريقة نجد أنفسنا كما وجد ماركيز نفسه سابقا، أمام كائنات تشبه البشر، تقلِّد في تصرفاتها كلَّ ما يجعلها تفسد في الأرض، ومِن ناحية أخرى تعمل على تخريب كلِّ ما يبدو لها جميلا، لتشعر بوجودها فقط، وكثيرا مِن الأحيان، هي تكتفي بتأليف الكذب والإشاعات، أو تتبع عثرات "الخصوم" لتنتهز أقرب فرصة لتنبيههم بأنَّها على دراية بهذا الجميل الذي يصنعونه "سرا"، بينما هي في الأصل كتلة من الأحقاد تنفث خرابها في كافة الاتجاهات.
حسب ماركيز فإنَّ المنتمين إلى هذا النوع من الثقافة، يعيشون معذبين قبل غيرهم، فهُم لا يعيشون حياتهم الخاصة، لأنَّهم وببساطة يقضون أوقاتهم في حراسة غيرهم، وتتبع عثراتهم أو ما تبدوا لهم أخطاء، وبذلك هُم يضيِّعون فرص العيش مقابل سخافات وتفاهات لا مجال لرصدها، لأنَّها لا تستحق ذلك.
شفاء هؤلاء يكون بالرجوع إلى ذواتهم المسلوبة، فعندما تراقب أحدهم ثمَّ تدفع طرفا ثالثا لتنبيهه بأنَّك تراقبه، فأنتَ عمليا مِن عبيد هذا الذي يبدو لكَ أذكى منك وأنت تعمل على إظهاره بمظهر الغبي، وستبقى من عبيده إلى أن تقرر الابتعاد عن هذه اللعبة التي لن تنفعك لا أموالك في الفوز بها، ولا نشاطك الغبي في ذلك، لأنَّك لست أنت من يصنع الحدث، بل هو، أيها الغبي!
https://instagram.com/msmezouar