من رواية تلك العتمة الباهرة للطاهر بن جلون
صوت أحمد قطليش
موسيقى : Arvo Pärt - Trisagion for String Orchestra
التذكر هو الموت !
لقد استغرقني بعض الوقت كيما أدرك أن التذكر هو العدو !
فمن يستدع ذكرياته يمت توا ..
كنا منسيين تحت الأرض ، بعيدا كل البعد عن الحياة ، وعن ذكرياتنا ..
وبرغم الأسوار التي تطوقنا ، لم تكن الجدران حصينة بما يكفي !
فلاشيء يحول دون فوران الذاكرة .
تجربة مغرية أن تستسلم لحلم يقظة يثري فيه الماضي صورا مجملة في الأغلب ، ومغبشة أحيانا ، وواضحة في أحيانا أخرى ، تتدفق دونما ترتيب أو نسق ، باعثة شبح الرجوع إلى الحياة !
مضمخة بعطور الاحتفال أو الأدهى بعطورالسعادة الاعتيادية ..
: ..
آه كم هي جميلة أشياء الحياة البسيطة ..
وكم هي مرعبة حين لا تعود هنا !
دونها المستحيل إلى الأبد !
إن الحلم الذي انقدت إليه في البداية ، كان مزيفاً . لقد جملت عمداً خامة وقائعه ، وأضفت اللون على الأسود بالمجان ..
كانت تلك لعبة وجدت بها قدراً من الوقاحة ، ومع ذلك كان من الممكن أن ألطف جلجلتي بشيء من التحدي .كنت ما زلت محتاجاً لتلك الأعذار الكاذبة لأقنع التسامح الذي ألم بي . لم أكن مخدوعاً ، فالدرب شاق وطويل ، إنه درب مريب .
:
كان الليل ماثلاً ليذكرنا بهشاشتنا .
أن نقاوم ما أمكنننا .. ألا نسقط .. أن نوصد أبواب كل الأبواب . أن نتصلب .. أن نفرغ أذهاننا من الماضي . أن ننظفها .
ألا ننظر إلى الوراء ، وأن نتعلم ألا نتذكر .
كان ينبغي ألا أشعر بعد ذلك بأنني معني بحياتي السابقة .. حتى لو جاءت الصور والعبارات إلى ليلي وراحت تحوم من حولي فالمفترض بي أن أطردها ، أن أزجرها ، لأني ما عدت قادراً على التعرف عليها .
:
كانت أحلامي خصبة . غالباً ما تزورني ، تقضي بصحبتي هزيعاً من الليل ثم تتلاشى مخلفة في قعر ذاكرتي فضلات من حياة نهارية . لم أكن أحلم لا بإطلاق سراحي ولا بما كان سابقاً لفترة احتجازي ، بل كنت أحلم بزمن مثالي ..
بزمن معلق بين أغصان شجرة سماوية ..
بلى ، أوان الخوف ، الطفل الذي يستيقظ فينا ، أما هنا فالمجنون والعاقل فيَّ يخوضان نزاعاً مريراً : من منهما سيحملني إلى أبعد ما أستطيع .. وكن أراقب ، مبتسماً .. مطمئناً ، هذا التجاذب بين الطرفين .
:
كنت إذا لاحت لي الذكريات وراودتني ، أبذل ما أوتيت من قدرات لكي أخمدها ، وأقطع عليها الطريق
كنت أردد بداهات كيما أنهك الصورة ريثما تتلاشى وتغرق في النسيان . حين كانت صوراً أخرى تسعى لأن تنبثق من الذاكرة ، كنت ألغيها متظاهراً بأنني أحرقها . فأقول في سري إنها لا تعنيني ، لقد أخطأت الخانة وأخطأت الشخص المعني . وببساطة لم أكن أتعرف إليها ولم يكن علي أن أفعل . وإذا ما ثابرت ، وصارت كالهاجس ، ملحاحة ، كنت ألطم رأسي بالحائط حتى الدوار . أوجع نفسي فأنسى .. كانت الضربة على الجبين تقدر على أن تكسر تلك الصور التي تلاحقني لتستدرجني إلى الجهة الأخرى من الجدار ، إلى الجهة الأخرى من مقبرتنا الخفية .
لفرط ما لطمت رأسي تورم .. لكنه صار أخف لأنه أفرغ من ذكريات كثيرة .
:
سرعان ما أدركت أن غريزة البقاء لن تسعفني للبقاء حياً ..
فحتى تلك الغريزة التي نشارك الحيوانات بامتلاكها ، قد كسرت فينا . كيف السبيل إلى البقاء على قيد الحياة في هذا الحجر ؟
وما جدوى أن يجرجر واحدنا جسده إلى النور ، جسداً محطماً مشوهاً ؟ لقد وضعنا في ظروف محسوبة بدقة لكي تمنع غريزتنا من السعي لمستقبل ما . وأدركت أن الزمن لم يكن له أي معنى إلا في حركة الكائنات والأشياء .
والحال أننا كنا محكومين بالسكون وخلود الأشياء المادية ..
كنَّا في حــاضر جامد !!
: