هاربون

بعد صلاة عشاء ذلك اليوم المشهود ، سرت في الحي أخبار تحكي المشادة الكلامية التي وقعت بين ( عبد الرحمان ) وابني ( موسى بوخضرة )، (العربي) و( المصطفى ) .. كل الروايات كانت تميل إلى أنهما قاتلا ( عبد الرحمان ) وما كان يعزز تلك الروايات أن الرجلين اختفيا ولم يظهر لهما أثر منذ مساء ذلك اليوم الرمضاني .. لم تكن متوفرة شهادات حول اللحظة التي قتل فيها ( عبد الرحمان ) بعدة طعنات في الصدر ..

مضت إلى خزانة الكتب وأخذت الرواية التي بدأت قراءتها قبل بضعة أيام . ولكنها ما أن عادت إلى الكرسي المقابل للنافذة حتى تحرك بداخلها الفضول تريد أن تعرف ما إذا كان ذاك الذي عبر الشارع قبل قليل قد مضى إلى حال سبيله أم إنه لا يزال هناك حيث رأته من قبل . فتحت النافذة إذ لم يكن لديها من سبيل لتشرئب بعنقها .. راعها أن الرجل واقع على الأرض المكسوة بالثلج ..

غابت شمس ذلك اليوم ولم يظهر أثر ل( رابحة ).. حاولت جمع ما تناثر من أغراضها على أرضية غرفة النوم .. لم يعد لديها الآن ما تخشى عليه السرقة .. إستقر رأيها على أن لا تخبر أحدا بالذي حدث وأن تتولى بنفسها البحث عن ( عبد الغني ) .. ولما اقترب الفجر وضعت في حقيبة بعض الملابس وأخذت من القدر القديمة ما يكفيها لسفرها الذي تظن أنه لن يتجاوز الأسبوع الواحد ..

لم يكن سرا لدى كثيرات من النساء اللواتي ظلت لهن علاقة ب(نورية) أن المرأة كانت تحب الذهب وأن كل ما ادخرته على مدى السنين الماضية من عمرها كان حليا ومصوغات من الذهب .. ولم يكن غريبا أنها – كما نساء كثيرات – تقول إن الذهب وسيلة ادخار آمنة ومضمونة ..

كانت ( رابحة ) من جاراتها ، وكانت تدعي قراءة الفنجان ، وكثيرا ما أوحت إليها بأنها ستقع على كنز يوما ما .

في جو ربيعي يزيد المنطقة بهاء ، وصلت إلى ( سوق ثلاثاء الكناديز ) سيارة من رباعيات الدفع .. لونها الأبيض المشرب بزرقة لطيفة خفيفة يضيف فخامة إلى فخامتها .. نزل من السيارة شابان ومعهما امرأة .. إنتهى بهم المطاف إلى خيمة لبيع اللحوم المشوية .. تداول الثلاثة همسا في ما يأكلونه .. قالوا إنهم يريدون كيلو من الكفتة وبراد شاي .. وقد باغتهم الرجل الذي تلقة طلبهم وهو يردد بصوت سمعه كل من في الخيمة ومن حولها .."كيلو من الكفتة وعجّل بذلك (المعطي )"..

في مفوضية الشرطة أدخل هو وتلك المرأة التي تحمل رضيعا مكتبا به ضابط أبلغه بأن هذه المرأة تتابع رجلا قال لها إنه ولدك .. أقامت معه علاقة نتج عنها حمل وولدت هذا الرضيع الذي تحمله .. كرر ( المدني ) ما قاله آنفا وأكد أنه مقيم في فرنسا وأنه لا ولد له .. كان الضابط ينظر في أوراق وضعها على مكتبه .. ودون أن يرفع رأسه سأل ( المدني ) :

فمن يكون ( حميد ) إذن ؟؟

بعد شهرين من اللقاء الأول بين (سليم أبو سليم) ووالدي (نادين) أتمّت الإجراءات القانونية بإعلان رسمي للقران من قبل العمدة، وانتقلت (نادين ) مرتدية فستان العروس إلى منزل زوجها، بعد الآن هي (مدام بوسليم).

لم يكن وجوده هناك ليمرّ دون أن ينتبه إليه .. الغرباء يرصدون سريعا .. وقد تعود أن يختفي قبل مغيب الشمس ويدلف إلى تلك الزريبة المهجورة .. ظن الناس الذين يسكنون المرتفع المطل على السد أنه من المتشردين بل إن منهم من حسبه من المجانين الذين يهيمون على وجوههم ..

صباح الثامن عشر من شتنبر، جاء إلى محل ( المعلم عبد القادر ) لإصلاح عوادم السيارات رجل من الشرطة يسأل عن ( عزيز ) .

قدّر ( العابد) أن الليل تجاوز نصفه .. الجو بارد .. حتى الآن لم يصادفا أحدا في طريقهما .. قال (العابد) إنه سيكون مفيدا لهما أن يتوغلا في عمق ( ماسه) وأن يعملا على مغادرتها بأسرع ما يمكن . إنتهى بهما الشارع الذي سلكاه إلى فضاء لا بناء قائم به .. بدت لهما أشجار في زاوية منه.. قال ( عبد القوي ) إنهما قد يجدان في تلك الأشجار مخبأ جيّدا يمكثان به حتى يتنفس الصبح ..

كان الناس من حول ( عبد القوي عبد الناصر ) يتحاشون كل تعليق بصوت مرتفع .. وكل ما يقال حول ما آلت إليه الأمور في تونس إنما يقال همسا .. الناس يخشون أن تزل ألسنتهم فيصبحوا نادمين .

. صار يفكر بجدّ الآن في الرحيل إلى السودان والعودة إل ( معزة ) قريته التي تنهل من (النيل الأبيض ).. إتفق مع صاحب شاحنة سوداني يقيم في (بنغازي) أن ينقل أسرته وما تملك من متاع .. وودعهم وداع من قد لا يراهم ثانية ..