فور عودته إلى البيت الأبيض، بدأ الرئيس دونالد ترامب بتعزيز سلطته التنفيذية على حساب السلطة التشريعية المتمثلة بالكونغرس، والسلطة القضائية المتمثلة بالقضاة الفدراليين والمحكمة العليا. جميع المسؤولين البارزين الذين عينهم ترامب في مناصب حساسة يدينون له بولاء كامل، بعضهم غير مؤهل كليا للقيام بمهامهم، بينما البعض الآخر من المؤمنين بنظريات المؤامرة.
قبل أيام صعقت عضوة مجلس الشيوخ الجمهورية ليسا ميركاوسكي Lisa Murkowski الأوساط السياسية والإعلامية حين أدلت باعتراف مذهل حول الحياة السياسية في حقبة الرئيس ترامب.
"كلنا خائفون" قالت ميركاوسكي قبل أن تتوقف لبضعة ثوان، لتضيف " هذا إعلان غريب، ولكننا في زمان ومكان أنا بالتأكيد لم أعرفه من قبل." وتابعت في كلمة أمام مؤيديها " دعوني أقول لكم، إنني في أحيان كثيرة أشعر بقلق كبير من أن استخدم صوتي، لأن الانتقام حقيقي. وهذا غير حق" .
والأمر اللافت في اعتراف ميركاوسكي هو أنها معروفة باستقلاليتها وجرأتها، وعدم ترددها في انتقاد سلوك الرئيس ترامب علنا، كما فعلت بعد المواجهة العلنية بينه والرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي، حين اتهمت ترامب بالتخلي عن حلفاء الولايات المتحدة.
هذا الاعتراف من قبل مشرعة جمهورية قبل انتهاء مهلة المئة يوم على عودة ترامب إلى البيت الأبيض يلخص بشكل سافر المناخ السياسي السائد حاليا في البلاد. الفارق البارز بين ولاية ترامب الأولى وولايته الثانية هو في نوعية الانتهاكات.
هو الآن أكثر تطرفا، وأكثر تهورا، وأكثر فوضوية، وأكثر ميلا للانتقام من خصومه الحقيقيين أو المتخيلين. ولا يبدو أنه يبالي باستطلاعات الرأي أو الاخبار السلبية عنه.
ويشنّ ترامب حربا لا هوادة فيها على عدة جبهات معا. ضد وسائل الاعلام التقليدية الكبيرة، وضد النظام القضائي المستقل، وضد مكاتب المحاماة الكبيرة، وضد الجامعات والمثقفين، وضد الادارة المدنية بحجة التصدي "للدولة العميقة". وهو في هذا المجال يستعير صفحة من كتاب الاوتوقراط الذين وصلوا قبله الى السلطة عبر الانتخابات مثل فيكتور أوربان في هنغاريا، ورجب طيب أردوغان في تركيا. والهدف من هذه الحرب هو ترويض واحتواء وحتى السيطرة على هذه المؤسسات الضرورية لازدهار وتقدم أي مجتمع ديموقراطي.
هذه الحرب ضد اركان المجتمع المدني ، والتفكيك المنظم للمؤسسات الديموقراطية هي التي خلقت مشاعر الخوف من تبعات تحدي ترامب او مقاومته . هذا الوضع الذي لم تشهده الولايات المتحدة في المئتين وخمسين سنة من حياتها، دفع بالمعلق المحافظ بيتر وينر لوصف ترامب " بملك أميركا المجنون".
نجح ترامب في بداية محاولاته ترهيب هذه المؤسسات، وأرغم بعضها ومنها كبريات الجامعات مثل جامعة كولومبيا قبول شروطه لإعادة هيكلة برامجها التعليمية لقاء موافقته على صرف المنح الحكومية المخصصة للأبحاث. وفعل الشيء ذاته عندما ارغم بعض مكاتب المحاماة الكبيرة الخضوع لشروطه وتقديم الخدمات القانونية المجانية لترامب وأنصاره مقابل امتناعه عن سحب الرخص الامنية التي تسمح للمحامين دخول المباني الحكومية.
ولكن في الأيام والاسابيع الاخيرة رأينا بدايات مقاومة لهجمة ترامب من قبل هذه المؤسسات المستهدفة. وعلى سبيل المثال رفضت جامعة هارفرد، أقدم وأهم وأغنى جامعة في البلاد شروط ومطاب ترامب باصلاح مناهجها التعليمية باسم مكافحة العداء للسامية، وهي تهمة باطلة، على الرغم من أن ترامب هدد بإيقاف منحة حكومية لبرامج بحثية تصل قيمتها إلى أكثر من ملياري دولار، وتهديده بحرمان هارفرد من الاعفاءات الضرائبية.
كما تحدت بعض مكاتب المحاماة ترامب ولجأت إلى المحاكم لوقفه. كما مني ترامب بسلسلة من القرارات القضائية السلبية، والتي هدد احدها بمعاقبة المسؤولين الحكوميين لانهم خالفوا عن قصد احكام القضاء. وحتى المحكمة العليا بأكثريتها المحافظة منعت يوم أمس ادارة ترامب مؤقتا من ترحيل مجموعة من المهاجرين من فنزويلا تتهمهم الحكومة بعضوية عصابة خطيرة وفقا لقانون يعود للقرن الثامن عشر وطبق فقط خلال ثلاثة حروب، بعد حرمانهم من أي مراجعة قانونية.
كما تجلت هذه المقاومة في التظاهرات الشعبية العارمة ضد سياسات ترامب التي عمت جميع انحاء البلاد، وفي استطلاعات الرأي التي أظهرت من جملة ما اظهرته معارضة شريحة واسعة من الناخبين الجمهوريين لسياسة ترحيل المهاجرين غير الموثقين وحرمانهم من حقوقهم القانونية. كما واجه عدد كبير من المشرعين الجمهوريين، جماهير غاضبة في مقاطعهم وولاياتهم يطالبونهم بمقاومة سياسات ترامب.
تدور الآن مواجهة ملحمية بين ترامب وقاعدته الضيقة، وبين شريحة كبيرة من الأمريكيين تحاول تخطي مخاوفها وتعزيز صفوفها لإنقاذ الديموقراطية الأمريكية من أكبر خطر داخلي تواجهه منذ الحرب الأهلية قبل أكثر من قرن ونصف.