في مدينة الموصل التي تبدو من بعيد كأنها تتعافى، إلا أن الموت مايزال يطارد أرواح أبناءها، حيث تتوالى حوادث الانتحار بين شباب وشابات الموصل، لتكشف أن الألم لم يختفي مع انطفاء الحرب، بل غاص في أعماق النفوس.
في شوارع الموصل وصالات الطوارئ وفي مانشيتات الأخبارِ اليوميةِ، يمرُ خبر الانتحار كطعنة في قلب الانسانية، أرقام ثقيلةٌ تزداد عامًا بعد عام، لتكشف أن الانتحار لم يعُد مجرد حالات فردية نادرة، بل ظاهرة إجتماعية بدأت تلتهمُ أرواح الشباب.
عمر الحسيني صحفي وناشط مدني :
هناك أسباب عديدة تقف وراء إنتشار هذه الظاهرة في مقدمتها الوضع الإقتصادي والوضع الإجتماعي والمشاكل الاسرية والتفكك الأسري وعدم متابعة الأهل الى جانب الجهل والتخلف وقلة الوعي جميعها أسباب تجعل الإنسان يصل الى هذه المرحلة.
تتجهُ أصابع الاتهام في العادة نحو الفقر وجروح النفس، بين صدمات الحرب ومخلفاتها، كثيرون يعيشونَ في عزلةٍ داخليةٍ لا يراها الآخرون، فيما يغيبُ الدعمُ النفسيُ الحقيقي، وتبقى وصمةُ العار معلقةً على كل من يطلب المساعدة.
في الموصل والعراق عمومًا، ما زالت النظرةُ إلى الصحة النفسية مشوبةً بالخجل، وكأن الألمَ النفسي أقلَ جدارةٍ بالعلاج من الألم الجسدي.
الطبيب الإستشاري النفسي عثمان المولى :
نظرة المجتمع العراقي الى الأمراض النفسية حقيقة تمر بتغيرات تدريجية نحو الأفضل لكنها بطيئة، كونها متأثرة بعوامل إجتماعية وثقافية، مثلا الوصمة الإجتماعية تجاه المريض النفسي ومراجعته للطبيب النفسي وأيضا تجاه الأدوية النفسية التي يعتقد خطأ أنها تتسبب بالادمان او الجنون، الإكتئاب هو المرض الأول المرتبط بالإنتحار وخاصة عندما يكون المريض قد وصل الى مرحلة فقدان الأمل في الحياة.
لم تظن شيماء يومًا أنها ستعود الى حياتها الطبيعية بعد أن سقطت في بئر اليأس، أقدمت هذه السيدة الأربعينية على الإنتحار مرتين لكنها فشلت، تروي قصتها لمونت كارلو الدولية قائلةً :
أنا واحدة من الأشخاص الذين أقدموا قبل ثلاثة سنوات على الإنتحار بسبب ظروفي الصعبة وبسبب حياتي القاسية، كنت حينها حامل ومررت بظروف إنسانية صعبة، حاولت أن أُلقي بنفسي أمام السيارات ومرة أخرى حاولت أن أنتحر من فوق الجسر ،لكن الحمد لله تلقيت العلاج عند طبيب نفسي وتغيرت حياتي نحو الأفضل.
الموصل التي امتلأت يومًا بأصوات الحياة، باتت تشهد خطوات ثقيلة تتجه نحو النهايات، وجوها باردة وأحذية متروكةً قرب النهر، وحروف وداع مخبأة تحت الوسائد،
ففي حزيران المنصرم سجلت المدينة أكثر من سبع عشرة حالةً، توزعت بين شنق وحرق وغرق.