”حادث أليم راح ضحيته ٦ قتلى والعديد من المصابين" جملة مبهمة، كليشيهية، مستهلكة، تُقال بعد كل كارثة في وطن بتحصي حياة وموت، مستقبل وماضي وأحلام وآلام وكأنها مجرد أرقام مبهمة مكتوبة على ورقة كراسة، مافيش حضور للبني آدمين ولا قصصهم، وبالتأكيد مافيش للبني آدمين دول قصاص من مسئول، اللهم إلا إذا كان عامل لودر على أد الحال.
مأساة خط الغاز في منطقة ٦ أكتوبر اللي حصلت مؤخرا مثلا، ما كانتش مجرد ”حادث“ زي ما بتقول مواقع الأخبار، ما كانتش مجرد تسريب غاز، بل انفجار مأساوي حوّل أرواح ستة مواطنين إلى رماد، وأحرق أجساد آخرين ما بين الحياة والموت. حدثٌ مرعب، شهدته مدينة يفترض أنها "نموذج عمراني“،تم تخطيطه بعناية بعيدا عن عشوائية الأحياء القديمة، فإذا بها تتحول إلى فخ ماعرفش يهرب من قبضته ٦ أرواح وعشرات المصابين
. لكن المفزع بجد مش اللي حصل ،لكن اللي ما حصلش.
ما صدرش بيان رسمي بيوضح ليه اللي حصل ده حصل.، مافيش وزارة أعلنت تحملها للمسؤولية، ما تمش توجيه التهمة لجهة ولا حتى أحيل حد للتحقيق.
الصمت كان خيار الجميع، و كان صوته أعلى بكتير من صرخات الأجساد المحروقة، وكأننا أمام مشهد لكارثة طبيعية، مش مشهد مكرر من سجل إهمال حكومي قاتل.
وما قصة ٦ أكتوبر إلا حلقة في سلسلة ممتدة. كلنا عارفينها، جيلي حافظ فصولها عن ظهر قلب، وبنحكيها دلوقتي ”للملينيالز ولجين زي“ بنغمة السخرية البائسة:
حادث قطار الصعيد ٢٠٠٢، التهم أرواح أكثر من ٣٥٠ راكب، وخرج فيه مسؤول النقل يلوم اللي ماتوا من الفقراء عشان كان معاهم مواقد غاز وكأن ده كافي لتبرير حجم الكارثة وعدد اللي راحوا فيها..
حادث العبّارة السلام ٩٨ عام ٢٠٠٦، اللي غرقت بمن فيها وسط البحر الأحمر، ولم يغرق معها سوى الصغار. عشان الكبار دايما بيعرفوا يطفوا فوق أي كارثة ويسيبوا صغار المسئولين يغرقوا مع المسئولية..
حوادث قطارات البحيرة، وسوهاج، ورمسيس، وآخرها قطار أسوان اللي أُغلق ملفه زي ما اتفتح : فجأة، بلا محاسبة.
والقاسم المشترك بينها جميعًا؟
أن المحاسبة لا تطال إلا صغار الموظفين، من عامل الإشارة حتى سائق اللودر. أما المسؤول الحقيقي، اللي وافق على وضع أنابيب غاز في منطقة سكنية دون أي إشارة لوجودها، أو اللي وافق على الحفر في مكان بدون ما يسأل عن نوع الأنابيب اللي بيحفر جنبها، أو اللي رسى المناقصة على شركة مقاولات تحت السلم مالهاش تاريخ في إجراءات السلامة، أو اللي تجاهل إبلاغ المواطنين المتكرر لانتشار ريحة الغاز في المنطقة وكإنهم كانوا بيبلغوا عن أكلة فسيخ!.
في حادث خط غاز ٦ أكتوبر، ماكانتش النيران وحدها هي الجريمة، بل التجاهل الإعلامي الصادم، والنبرة الباردة اللي تناول بها البعض الحدث، وكأن الضحايا كانوا في مغامرة شخصية ضد النيران. لا بكاء إعلامي، لا صوت غاضب تحت قبة البرلمان، لا حملة تأبين وطنية.
كأن الموتى بلا أسماء، كأن ماكانش ليهم أثر في الحياة، كأن مالهومش عائلات كانت مستنياهم يوميها على الفطار .
إن أكبر جرائم الإهمال في العالم العربي لا تكمن فقط في وقوعها، بل في النسيان السريع ليها، في محو الذاكرة الجماعية، وفي تمجيد ثقافة: "خليها على الله".
بس ربنا ما بيقبلش الظلم. والعدل لا يُقام بالدعاء وبس، بل بمؤسسات بتحاسب، وتعاقب، وتعتذر.
فلا أمن بلا عدالة. ولا عدالة بدون محاسبة.
ولا محاسبة في وطن، كل مسؤول فيه يتقن جملة:
: ”أنا مش مسؤول“."