نخصص حلقة هذا الأسبوع من برنامج "قرأنا لكم" للكاتب والشاعر الفرنسي شارل جولييه الذي توفي مؤخرا عن سن تناهز التاسعة والثمانين. كاتب فرنسي فريد وعجيب ومن طينة نادرة.
ولد شارل جوليه في 30 سبتمبر 1934 في بلدة جوجوريوه وسط فرنسا وهو الطفل الرابع في عائلة متواضعة. وهو رضيع ولم يتجاوز عمره الشهر تم وضع والدته في مصحة عقلية وتخلى عنه أبوه. ولاحقا تبنته عائلة أخرى وتربى في حضنها. ومن هنا نفهم كتابة وابداع شارل جولييه الذي تأثر الى الأبد بما وقع له وهو رضيع. جرح شخصي هائل ومدمر طبع حياته ببصمة من نار. في الثانية عشرة من عمره التحق بالأكاديمية العسكرية وبعد عشرين عاما اشتغل في قطاع الصحة التابع للجيش وفي الثالثة والثلاثين عاما هجر المهنة من أجل الكتابة رغم أنه لا أفق لديه ولا مستقبل ولا مال. كانت معضلته الأساسية هي أن يقوم بكتابة حياته بالمعنى الحرفي للكلمة وخاض غمار الكتابة بعقدة نقص مرعبة. وحدثت المعجزة عام 1978 عندما وافق الناشر الفرنسي الفذ بول أوتشاكوفسكي لورونس مؤسس دار POL على نشر كتابه الأول بعنوان مذكرات وكان حينها كاتبا مجهولا ومن هنا أهمية الناشر في مسيرة كتاب من هذا النوع . أعطاه فرصة حياته وهكذا صار وترسخ كاتبا....... وكان هذا حدثا مفصليا في حياته.. وصرح الكاتب متعجبا في احدى حواراته : حتى الآن لم أفهم كيف يقوم ناشر بالمغامرة في نشر يوميات كاتب مجهول وكيف يقبل بأن يكون هذا هو كتابه الأول... .... لنستمع الى شارل جولييه متحدثا عن الكتابة والحياة...
الكتابة عن الحياة الحميمية ليست بالنسبة لي محاولة لاستعمال تفاصيل الحياة في الكتابة بل فقط محاولة استنساخ ما حدث وتوصيفه بقدر كبير من الدقة وبدون مبالغات انشائية أو بلاغية. حياتي كانت كارثة منذ الولادة وعشت بدون والدي... وتربيت في عائلة أخرى مع أم جديدة وأب جديد... هذا هو الجرح الشخصي الذي عشت معه منذ الولادة. والكتابة عنه كانت بالنسبة لي مسألة حياة أو موت... وأخذ مني هذا وقتا كثيرا ومحاولات فيها الكثير من الكد والتعب والفشل... ولم أنجح في ذلك سنوات طويلة عشت فيها مرحلة من الكآبة القاتلة والانهيار. وفي الأربعينيات من عمري بدأت أتلمس معالم وملامح الطريق الى كتابة ما يعذبني ونجحت في ذلك نسبيا. أنا أعتبر أن المسالك الى الذات الحقيقية شيء عظيم وهو ليس متوفرا ومتاحا لأي كان... والكتابة هي الوسيلة الوحيدة لترميم ذلك في نظري ... قضيت سنوات طويلة وبذلت جهودا كثيرا لكي أتوصل لهذه القناعة وهي أن : الطرق الوحيدة التي تستحق أن نسلكها هي تلك التي تؤدي إلى أعماقنا...
طبعا هناك إشكالية التعامل مع اللغة وترويضها لكي نقول بالضبط ما نريد أن نقوله ولكب نصف بالضبط وهذا هو الأهم في نظري ما حدث ولكي تصير الذكريات بأدق تفاصيلها وأحاسيسها المعقدة والتباساتها الغامضة حبرا على ورق...
أنا أعتقد بأن الوجود فيه كثير من الألم والتعاسة وأن الكائن عليه أن يبذل كل جهده وينفق سنوات عمره للوصول إلى فكرة ما عن السعادة...
والسعادة بالنسبة لي شخصيا هي في أحسن تجلياتها كتابة صادقة عن التعاسة...
بعد ذلك الكتاب الأول وهو عبارة عن مذكرات وتسجيل لليوميات واصل الكاتب يومياته وبلغت تسعة أجزاء عن نفس الدار. نشر شارل جولييه ديوانيين شعريين أيضا بنفس اللغة ونفس الهواجس الحميمية والحرص على تسجيل الكوارث الشخصية التي تزلزل تاريخ الفرد بعيدا عن قضايا وهموم الجماعة والمجتمع.
في النهاية من الضروري أن نذكر بأن شارل جولييه ارتبط بصداقة غريبة مع الكاتب الايرلندي صموئيل بيكيت ونشر كتابا عنه. ومن بيكيت ورث تلك اللغة البيضاء المتقشفة الدقيقة والعبثية...
وكل كتاب وأنتم بخير...