مدونة اليوم

جمانة حداد: ليس ولن يكون


Listen Later

السيّد توم برّاك، أكتب إليك لا بوصفك رجل أعمال، ولا إنساناً تحوم حوله وتلتصق به شبهات ارتكابات "ابستينية"، ولا وسيطًا مفترضًا، بل بوصفك صاحب تصريحٍ خسيس قرّر أن يتعامل مع بلدٍ كامل كأنّه سطر زائد يمكن شطبه من هامش الجغرافيا. أكتب إليك من مكانٍ اسمه لبنان، لا من فكرةٍ عابرة، ولا من خطأٍ تاريخيّ قابل للتصحيح.

لبنان، يا أستاذ برّاك، لم يكن يومًا جزءًا من أيّ دولة سوريّة. لا في التاريخ، ولا في الجغرافيا، ولا في الوعي، ولا أيضًا في اللاوعي. لم يكن يوما تفصيلًا في مشروعٍ لأحد، ولا غرفةً ملحقة في بيتٍ أكبر. كان جبلًا قبل الجبال، وكيانًا قبل أن تتشكّل الكيانات والدول، وجغرافيا خاصّة قبل أن تُرسم خرائط الجغرافيا، وتجربةً عصيّة قبل أن تصبح الوصاية عادةً إقليميّة. وسيبقى كذلك، مهما أُعيد تدوير الوهم، ومهما ارتفعت نبرة الموتورين.

ما تكرّره، وتردّده بعض الأبواق المألوفة في لبنان، عن "ضمّ" بلدنا أو "دمجه" أو "وضعه" تحت أمرة دمشق، ليس قراءةً سياسيّة، بل خيالٌ استعماريّ متأخّر، هراءٌ يرتدي ربطة عنق، ويتوهّم أنّ لغو الكلمات يستطيع محو الكيانات. كأنّ لبنان صفحة يمكن طيّها، أو قطعة أثاث يمكن نقلها من غرفة إلى أخرى.

لبنان ليس جائزة ترضية لأحد، ولا منطقة نفوذ مؤقّتة، ولا مشروعًا ناقصًا ينتظر من "يُكمله". هو بلدٌ دفع أثمان استقلاله دمًا، وأثمان اختلافه خرابًا، وأثمان عناده حصارًا، وأثمان خصوصيّته فكرًا وأدبًا وثقافةً وتمايزًا. وهو يعرف، أكثر من غيره، معنى أن يُراد له أن يكون تابعًا، وكم كلّفته مقاومة ذلك.

أن تتحدّث عن لبنان كملحقٍ بسوريا، فأنت لا تسيء فقط إلى اللبنانيين، بل إلى السوريين أيضًا. لأنّك تحوّل العلاقة المعقّدة والمؤلمة بين شعبين وبلدين إلى معادلة سيطرة، وتختزل التاريخ المشترك، بكل مآسيه وتشابكاته، في فكرة ضمٍّ فظّة، لا تحترم أحدًا.

لبنان اليوم جريح، نعم. ضعيف اقتصاديًا، نعم. مُنهك سياسيًا، نعم. لكن الجرح لا يعني الاستسلام، والإنهاك لا يعني التفريط بالهوية. البلدان لا تُقاس بلحظات ضعفها، بل بقدرتها على النهوض رغم كلّ ما كُسر فيها. وفي هذا المعنى لبنان هو جبل لبنان، ولبنان هو لبنان، بعشرة آلاف وخمسئة واثنين وأربعين كيلومترًا مربّعًا. ومن رأس الناقورة إلى النهر الكبير، ومن حرمون والباروك وصنين والمكمل والقرنة السوداء إلى فقش الموج. 

لذا، أقولها لك بوضوح لا لبس فيه: لبنان ليس سوريًا، ولن يكون. لا بالفرض، ولا بالتصريح، ولا بالتمنّي. هو بلدٌ مستقلّ، وسيّد، حتى حين يُتعبه واقعه. وربما آن الأوان أن تتعلّم، وأنت تتحدّث عن الشرق الأوسط، أنّ هذه المنطقة ليست ملكًا لأحد، وأنّ أوطانها ليست اقتراحات قابلة للتعديل.

...more
View all episodesView all episodes
Download on the App Store

مدونة اليومBy مونت كارلو الدولية / MCD


More shows like مدونة اليوم

View all
Learning English Grammar by BBC Radio

Learning English Grammar

314 Listeners

سهرة خليجية by مونت كارلو الدولية / MCD

سهرة خليجية

1 Listeners

صحتكم تهمنا by مونت كارلو الدولية / MCD

صحتكم تهمنا

1 Listeners

الصحة المستدامة by مونت كارلو الدولية / MCD

الصحة المستدامة

5 Listeners

طرب by مونت كارلو الدولية / MCD

طرب

1 Listeners

حكاية نغم by مونت كارلو الدولية / MCD

حكاية نغم

1 Listeners

أصوات المدينة by مونت كارلو الدولية / MCD

أصوات المدينة

0 Listeners

هوى الأيام by مونت كارلو الدولية / MCD

هوى الأيام

0 Listeners

مدونة اليوم by مونت كارلو الدولية / MCD

مدونة اليوم

0 Listeners

نافذة على العالم by مونت كارلو الدولية / MCD

نافذة على العالم

1 Listeners

ثقافات by مونت كارلو الدولية / MCD

ثقافات

0 Listeners

ساعة موسيقى by مونت كارلو الدولية / MCD

ساعة موسيقى

2 Listeners

يوميات مسافرة by مونت كارلو الدولية / MCD

يوميات مسافرة

0 Listeners

تعلموا الفرنسية مع مسلسل Les voisins du 12 bis by مونت كارلو الدولية / MCD

تعلموا الفرنسية مع مسلسل Les voisins du 12 bis

4 Listeners

الساعة الخليجية by مونت كارلو الدولية / MCD

الساعة الخليجية

1 Listeners

قراءة في الصحافة العالمية by فرانس 24 / FRANCE 24

قراءة في الصحافة العالمية

2 Listeners

قرأنا لكم by مونت كارلو الدولية / MCD

قرأنا لكم

0 Listeners

ريبورتاج by مونت كارلو الدولية / MCD

ريبورتاج

0 Listeners

ريبورتاج ثقافي by مونت كارلو الدولية / MCD

ريبورتاج ثقافي

0 Listeners

يستحق الانتباه by BBC Arabic Radio

يستحق الانتباه

6 Listeners

النشرة الرقمية by مونت كارلو الدولية / MCD

النشرة الرقمية

1 Listeners

من قاعات التحرير by مونت كارلو الدولية / MCD

من قاعات التحرير

1 Listeners

وقفة مع الحدث by مونت كارلو الدولية / MCD

وقفة مع الحدث

0 Listeners